في عالمٍ تتراكم فيه مشاهد المجازر، وتتناثر فيه شعارات الحقوق بين رفوف المؤسسات الدولية، برزت «مجموعة لاهاي» كمشهد غير مألوف. لم تكن التغطيات الإعلامية المُنمّقة، ولا خطابات القوى الكبرى، هي من أطلق الصرخة هذه المرّة، بل بلدانٌ لطالما اعتُبرت في الهامش الجيوسياسي. اجتمعت هذه الدول، لا لتبادل النوايا الحسنة، بل لتخطّ موقفاً واضحاً: إن زمن الإفلات من العقاب قد انتهى، وإن القانون الدولي ليس أداة تزين بيانات المؤتمرات، بل سيف يجب أن يُرفع في وجه الإبادة. في بوغوتا، لم تكن الكلمات ترفًا، بل إعلانًا عن إرادةٍ جماعية لتحدي القمع، ومحاسبة من ظنّ نفسه فوق القانون.
في قلب العاصمة الكولومبية بوغوتا، وعلى مدى يومين من النقاشات المكثفة، اجتمعت دول من ثلاث قارات لتعلن أن الصمت لم يعد خياراً، وأن القانون الدولي ليس مجرد حبر على ورق. كان ذلك في أول اجتماع وزاري طارئ لـ«مجموعة لاهاي»، التحالف الدولي الذي تأسس في يناير 2025 في المدينة الهولندية الشهيرة، ليكون صوتاً قانونياً وأخلاقياً في وجه الجرائم المرتكبة في فلسطين، وتحديداً في قطاع غزة.
من لاهاي إلى غزة؛ ولادة تحالف غير تقليدي
تشكّلت «مجموعة لاهاي» من دول تنتمي إلى الجنوب العالمي، منها كولومبيا، جنوب أفريقيا، بوليفيا، كوبا، هندوراس، ماليزيا، ناميبيا، والسنغال. هذه الدول، التي لا تملك نفوذاً سياسياً أو اقتصادياً كالذي تتمتع به القوى الكبرى، قررت أن تلعب دوراً محورياً في إعادة الاعتبار للقانون الدولي، بعد أن باتت الجرائم في غزة تُرتكب على مرأى ومسمع من العالم، دون رادع أو مساءلة.
الاجتماع الذي عُقد في قصر سان كارلوس، مقر وزارة الخارجية الكولومبية، لم يكن مجرد لقاء دبلوماسي، بل كان إعلاناً صريحاً بأن الإفلات من العقاب يجب أن ينتهي. فالمجموعة وضعت ثلاث أولويات واضحة: الامتثال لمذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، حظر توريد الأسلحة إلى كيان العدو، ومنع السفن العسكرية الصهيونية من الرسو في موانئ الدول الأعضاء.
فرانشيسكا ألبانيز.. صوت الضمير الدولي
من بين أبرز الحضور كانت المقررة الأممية «فرانشيسكا ألبانيز»، التي فرضت عليها واشنطن عقوبات بسبب تقاريرها الحقوقية وتصريحاتها الجريئة حول الإبادة الجماعية في غزة. ألبانيز، التي تحولت إلى رمز للمقاومة القانونية، وصفت الاجتماع بأنه خطوة مركزية في المساعي الدولية لوقف الجرائم الصهيونية مؤكدة أن القانون يجب أن يُطبق على الجميع، دون استثناء.
كولومبيا تتصدر المشهد؛ من الإدانة إلى الفعل
الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو لم يكتفِ بالكلمات، بل قطع علاقات بلاده مع كيان العدو الصهيوني في مايو/ أيار الماضي، وكتب مقالاً في صحيفة غارديان البريطانية أكد فيه أن «من واجب جميع الحكومات الوقوف في وجه كيان العدو». بيترو، الذي وصف الهجمات على غزة بأنها إبادة جماعية، قال أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة: «عندما تموت غزة، ستموت البشرية جمعاء». هذه التصريحات أثارت غضب كيان العدو، التي ردت باتهامه بمعاداة السامية ودعم حركة حماس.
واشنطن في مواجهة لاهاي.. صراع الإرادات
الولايات المتحدة، التي ترى في كيان العدو حليفاً استراتيجياً، لم تُخفِ انزعاجها من الاجتماع. فوصفت وزارة الخارجية الأميركية «مجموعة لاهاي» بأنها تكتل متطرف يسعى إلى تقويض سيادة الدول الديمقراطية، واعتبرت أن استخدام القانون الدولي ضد كيان العدو هو محاولة لنزع الشرعية عنها. أحد المسؤولين الأميركيين وصف جنوب أفريقيا وكوبا بأنهما «نظامان استبداديان وشيوعيان»، في محاولة لتشويه صورة التحالف.
لكن الرد الأقسى لم يكن من المجموعة، بل من الواقع نفسه. فبينما تهاجم واشنطن المساعي القانونية، تُعرض على الشاشة مشاهد من غزة: أطفال تحت الركام، نساء في المخيمات، عائلات تبحث عن لقمة وملاذ في ظل المجازر المتواصلة. وماذا بعد؟ محكمة جنائية تصدر مذكرات اعتقال، وأمم متحدة ترسل مقرّريها، و30 دولة تقول: كفى.
حضور دولي واسع يكسر حالة الجمود
الاجتماع شهد مشاركة وفود من أكثر من 30 دولة، منها الجزائر، الصين، البرازيل، العراق، لبنان، نيكاراغوا، عُمان، باكستان، إسبانيا، تركيا، وفنزويلا. كما حضر ممثلون عن مصر وقطر، والنائبة الفرنسية في البرلمان الأوروبي ريما حسن، التي شاركت مؤخراً في «أسطول الحرية»، والسفير الفلسطيني لدى الأمم المتحدة رياض منصور.
هذا الحضور الواسع يعكس رغبة دولية متزايدة في كسر حالة الجمود، والانتقال من الإدانة الكلامية إلى اتخاذ إجراءات ملموسة، سواء على المستوى القانوني أو الدبلوماسي أو الاقتصادي.
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة. كيان العدو حاول الطعن في هذه المذكرات، لكن المحكمة رفضت الطلب، مؤكدة أن المبررات القانونية غير كافية، وأن الجرائم المرتكبة تستوجب المحاسبة.
هذا القرار شكل نقطة تحول في مسار العدالة الدولية، وأعطى دفعة قوية لـ«مجموعة لاهاي» التي تسعى إلى تنفيذ هذه المذكرات، رغم الضغوط الأميركية والغربية.
منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، يشن كيان العدو حرباً على قطاع غزة وصفتها منظمات دولية بأنها إبادة جماعية. أكثر من 198 ألف فلسطيني سقطوا بين شهيد وجريح، معظمهم من الأطفال والنساء، إضافة إلى آلاف المفقودين ومئات آلاف النازحين. المجاعة والدمار والتهجير القسري باتت مشاهد يومية، في ظل تجاهل دولي لأوامر محكمة العدل الدولية بوقف العمليات العسكرية.
إعادة تعريف العدالة الدولية
التحرك الذي تقوده «مجموعة لاهاي» لا يقتصر على فلسطين، بل يعكس تحولات أعمق في بنية النظام الدولي. دول الجنوب العالمي بدأت تتحد، ليس فقط لمواجهة الاحتلال، بل لإعادة تعريف العدالة الدولية، بعيداً عن هيمنة القوى الكبرى. هذا ما أكده الرئيس الكولومبي حين قال:«لن نسمح بعد الآن بأن يُعامل القانون الدولي كخيارٍ اختياري، أو أن تُعامل حياة الفلسطينيين كأمرٍ قابلٍ للاستهلاك والتخلص منه».
اجتماع بوغوتا لحظة مفصلية
اجتماع بوغوتا لم يكن مجرد حدث دبلوماسي، بل كان إعلاناً بأن العالم لم يعد يحتمل المزيد من الصمت. «مجموعة لاهاي» أعادت الاعتبار لفكرة أن القانون يمكن أن يكون أداة للمحاسبة، لا مجرد وسيلة لتبرير الجرائم. وفي زمن تتوارى فيه القيم خلف المصالح، جاءت هذه الدول لتقول: إن العدالة لا تموت، ما دام هناك من يجرؤ على إحيائها.
لم يكن اجتماع بوغوتا حدثًا عابرًا، بل لحظة مفصلية كشفت حدود القوة التقليدية، وأبرزت وجهًا جديدًا للعالم يُصاغ من الجنوب. لقد تحولت لاهاي من رمزية قانونية إلى أداة نضالية، تُواجه الغطرسة، وتعيد تعريف المعاني: العدالة، الكرامة، والمحاسبة. هذه ليست بداية ثورة قانونية فحسب، بل إعلان أن الضمير العالمي، حين يستيقظ، لا يُمكن إسكاته لا بالعقوبات ولا بالتشكيك. فغزة لن تكون مجرد جغرافيا حزينة في تقارير الأمم المتحدة، بل نقطة اختبار لما تبقى من إنسانيتنا.