أربعون عامًا تكشف هشاشة القضاء

فرنسا…حين يصمت القانون وتتكلم السياسة

يكشف السلوك الفرنسي في التعامل مع جورج عبد الله عن تناقض صارخ بين الخطاب الرسمي الفرنسي، الذي يروج للديمقراطية والعدالة وبين الممارسة الفعلية التي تظهر وجهاً استعمارياً قبيحاً، لا يزال يرفض الاعتراف بحق الشعوب في المقاومة.

 

 

 في عالمٍ تتبدل فيه المفاهيم وتُقلب فيه القيم رأساً على عقب، يصبح المناضل إرهابياً، والمقاوم مجرماً، ويُكافأ الخنوع ويُعاقب الثبات. في هذا المشهد العبثي، يطل جورج إبراهيم عبد الله، الرجل الذي قضى أكثر من أربعة عقود خلف القضبان الفرنسية، لا لأنه ارتكب جريمة بحق الإنسانية، بل لأنه رفض أن يساوم على قضيته، وتمسك بمبادئه حتى الرمق الأخير.

 

 

قصة جورج ليست مجرد حكاية سجين سياسي، بل هي مرآة تعكس زيف العدالة الغربية، وتفضح ازدواجية المعايير التي تتغنى بها فرنسا، بلد «الحرية والمساواة والأخوة»، بينما تمارس أبشع أشكال القمع بحق من يرفض الانصياع لهيمنتها الاستعمارية. إنها قصة رجلٍ لم ينكسر، بل حوّل زنزانته إلى منبر للمقاومة، وصار رمزاً لكل من قال «لا» في وجه من أراد فرض «نعم» بالقوة.

 

 

من لبنان إلى زنزانة لانميزان

 

وُلد جورج إبراهيم عبد الله عام 1951 في بلدة القبيات شمال لبنان، وسط بيئة مسيحية محافظة، لكنه سرعان ما انخرط في النضال السياسي في سنوات الحرب الأهلية اللبنانية. تأثر بالأفكار اليسارية الثورية، وانضم إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة، قبل أن يصبح أحد مؤسسي «الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية»، وهي مجموعة تبنّت الكفاح المسلح ضد الإمبريالية الغربية، خاصةً ضد الولايات المتحدة والعدو الصهيوني.

 

 

في عام 1984، ألقت السلطات الفرنسية القبض عليه بتهمة المشاركة في اغتيال دبلوماسيين أمريكيين وصهاينة في باريس، وهما تشارلز روبرت راي، الملحق العسكري الأمريكي، وياكوف بارسيمانتوف، الدبلوماسي الصهيوني. رغم أن الأدلة المباشرة كانت محل جدل قانوني، إلا أن عبد الله أُدين عام 1987 وحُكم عليه بالسجن المؤبد. ومنذ ذلك الحين، بدأت قصة طويلة من الصراع القانوني والسياسي، إذ أصبح الإفراج عنه قضية تتجاوز حدود القضاء الفرنسي، لتغوص في أعماق العلاقات الدولية والتوازنات الجيوسياسية.

 

 

محاكمة سياسية بامتياز؛ والقضاء أداة للانتقام

 

 

ما يثير الاستغراب، وربما الغضب، هو أن جورج عبد الله استوفى شروط الإفراج المشروط منذ عام 1999، وفقًا للقانون الفرنسي. إلا أن كل طلباته للإفراج قوبلت بالرفض، ليس لأسباب قانونية، بل لضغوط سياسية واضحة، أبرزها من الولايات المتحدة التي تعتبره «إرهابيًا غير نادم»، ومن كيان العدو الذي يرى في إطلاق سراحه تهديدًا رمزيًا. حتى عندما وافق القضاء الفرنسي على الإفراج عنه عام 2013، تدخلت وزارة الداخلية الفرنسية لتعطيل القرار، بحجة عدم وجود ضمانات لترحيله إلى لبنان.

 

 

هذا السلوك يكشف أن القضاء الفرنسي ليس مستقلاً، بل هو أداة في يد الدولة العميقة، يُستخدم لتصفية الحسابات السياسية، ويُدار وفقاً لمصالح استعمارية لا تزال حية في العقل الفرنسي. فكيف يمكن تفسير رفض تنفيذ قرار قضائي صادر عن محكمة مختصة؟ وكيف يمكن تبرير استمرار احتجاز رجل تجاوز السبعين من عمره، رغم استيفائه كل الشروط القانونية للإفراج؟

 

 

العدالة الفرنسية تُدار من خلف الستار

 

 

من يراقب مسار قضية جورج عبد الله، لا يمكنه إلا أن يلاحظ أن القضاء الفرنسي لم يكن يومًا سيد قراره. فقرارات الإفراج التي صدرت عن محاكم مختصة، تم تعطيلها مرارًا من قبل وزارة الداخلية أو النيابة العامة، في مشهد يُظهر أن العدالة في فرنسا ليست سوى واجهة تُدار من خلف الستار السياسي. هذا التداخل بين القضاء والسياسة يُعيد إلى الأذهان ممارسات الأنظمة السلطوية، لا الدول الديمقراطية التي تتفاخر باستقلالية مؤسساتها.

 

 

إن رفض تنفيذ قرارات قضائية فقط لأن الولايات المتحدة أو كيان العدو لا ترغبان بذلك، يُعد انتهاكًا صارخًا لمبدأ فصل السلطات، ويُظهر أن فرنسا، رغم خطابها الحقوقي، لا تزال أسيرة تحالفاتها الجيوسياسية، حتى لو كان الثمن هو سحق العدالة.

 

 

قضية جورج تكشف خللًا بنيويًا في النظام القضائي الفرنسي، إذ يُستخدم القانون لتبرير الإقصاء السياسي، ويُعاد تعريف «الإرهاب» وفقًا لمصالح الحلفاء، لا وفقًا للمعايير القانونية الموضوعية. فهل يمكن اعتبار مقاومة الاحتلال جريمة؟ وهل يُعقل أن يُسجن رجل لأربعة عقود لأنه لم يُبدِ ندمًا على نضاله؟إنها العدالة التي تُكافئ الخنوع، وتُعاقب الثبات، وتُعيد إنتاج الاستعمار بثوب قانوني.

 

 

بلد الديمقراطية الزائفة

 

 

فرنسا تتغنى بحقوق الإنسان، لكنها سجنت جورج لأسباب سياسية بحتة. لم يكن الهدف تحقيق العدالة، بل تأديب من تجرأ على تحدي الهيمنة الغربية. تجاهلت فرنسا مطالبات دولية ومحلية بالإفراج عنه، ورفضت تنفيذ قرارات قضائية بالإفراج المشروط، وخضعت لضغوط أميركية وصهيونية لإبقائه في السجن.

 

 

هذا السلوك يكشف عن تناقض صارخ بين الخطاب الفرنسي الرسمي، الذي يروج للديمقراطية والعدالة، وبين الممارسة الفعلية التي تُظهر وجهًا استعماريًا قبيحًا، لا يزال يرفض الاعتراف بحق الشعوب في المقاومة، ويُجرّم كل من يرفع صوته ضد الاحتلال والهيمنة.

 

 

 ذاكرة استعمارية لا تُمحى

 

 

لا يمكن فهم تعنّت فرنسا في قضية جورج عبد الله دون العودة إلى ذاكرتها الاستعمارية الثقيلة، خصوصًا في الجزائر وفلسطين. في الجزائر، مارست فرنسا استعمارًا استيطانيًا دام 132 عامًا، ارتكبت خلاله مجازر جماعية، وصادرت الأراضي، وفرضت قوانين تمييزية مثل «قانون الأهالي». وحتى بعد الاستقلال، لا تزال فرنسا تُظهر عجزًا أخلاقيًا عن الاعتراف الكامل بجرائمها، وتُقاوم دعوات الاعتذار.

 

أما في فلسطين، فقد لعبت فرنسا دورًا مزدوجًا فهي من جهة دعمت مشاريع استيطانية مبكرة، ومن جهة أخرى تجاهلت الحقوق الفلسطينية، ورفضت اتخاذ مواقف حازمة ضد الاحتلال، رغم ادعائها الدفاع عن حقوق الإنسان. هذا التناقض يتجلى في موقفها من تقرير منظمة العفو الدولية، حيث رفضت وصف كيان العدو بأنه يمارس الفصل العنصري. قضية جورج تُعيد فتح هذه الجراح التاريخية: كيف يمكن لدولة تدّعي الدفاع عن الحرية أن تسجن مناضلًا، بينما تتغاضى عن جرائم الاحتلال؟ استمرار احتجازه، رغم استيفائه شروط الإفراج، يُظهر أن الاستعمار لم ينتهِ، بل غيّر شكله.
الإعلام الفرنسي شريك في الجريمة

 

 

لم يكتف القضاء الفرنسي بسجن جورج، بل شارك الإعلام الغربي في تشويه صورته. وصفه بالإرهابي رغم أن عملياته كانت ضد أهداف عسكرية، تجاهل نضاله من أجل فلسطين ولبنان، وروّج لروايات صهيونية وأميركية لتبرير سجنه.

 

 

هذا الإعلام، الذي يدّعي الموضوعية، أثبت أنه جزء من ماكينة الهيمنة، يُجمّل الاحتلال، ويُشيطن المقاومة، ويُعيد إنتاج الأكاذيب التي تخدم مصالح الاستعمار الجديد.

 

 

صدر قرار بالإفراج المشروط عن جورج في يوليو/تموز 2025، لكن اشترط القضاء الفرنسي مغادرته الأراضي الفرنسية فورًا، دون السماح له بإلقاء كلمة أو الظهور إعلاميًا. هذا الإفراج لم يكن انتصارًا للعدالة، بل محاولة لتفادي الإحراج السياسي، إذ لم تحتمل فرنسا أن يظهر رجل تحدّى سلطاتها منتصرًا على أرضها.

 

 

الإفراج عنه لا يعني نهاية المعركة، بل بداية جديدة. بداية لإعادة طرح قضية السجناء السياسيين في الغرب، ومساءلة النظم القانونية التي تتواطأ مع السياسات الإمبريالية. إنها لحظة لإعادة تعريف العلاقة بين القانون والمقاومة، بين العدالة والسلطة، وبين الحرية والخضوع.

 

 

«لا» في وجه الظلم أقوى من ألف «نعم»

 

 

جورج إبراهيم عبد الله خرج منتصرًا، لا لأنه نال حريته، بل لأنه لم يتنازل عنها. أربعون عامًا من السجن لم تُطفئ شعلة المقاومة في قلبه، ولم تُبدد إيمانه بقضيته. لم يرضخ، لم يندم، ولم يطلب الصفح، بل تمسك بكلمته الأولى: «أنا مقاتل، ولست مجرمًا.» إنها رسالة لكل من اعتقد أن الاستعمار انتهى، وأن العدالة الغربية نزيهة. جورج أثبت أن «لا» في وجه الظلم أقوى من ألف «نعم» في حضرة الطغيان. سيبقى رمزًا، وسيبقى شاهدًا على أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع، وأن العدالة لا تُستجدى، بل تُفرض، وأن المقاومة ليست خيارًا… بل قدرًا أخلاقيًا لا يُمكن التخلي عنه.

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص

الاخبار ذات الصلة