إنّ جعل الإنسان سعيدًا، ليس أمنية مثالية، بل غاية يمكن السعي إليها وتحقيقها إذا توفرت الرؤية، والإرادة، والنظام. وفي مشروع الدولة الحضارية الحديثة، نضع السعادة الإنسانية هدفًا مركزيًا، نُعيد عبره بناء العلاقة بين الدولة والمواطن، وبين الفرد والمجمع، وبين الإنسان والكون…
مقدمة
منذ فجر التاريخ، سعى الإنسان إلى السعادة. تعددت الوسائل، واختلفت التصورات، وتباينت الفلسفات، لكن ظلت الغاية واحدة: أن يعيش الإنسان في حالة من الرضا، الطمأنينة، والانفتاح على الحياة.
وفي مشروعنا الحضاري، نعلن بوضوح أن الإنسان السعيد هو الغاية العليا لكل نظام حضاري حقيقي. فالسعادة ليست مجرد حلم فردي، بل هي ثمرة مشروع جماعي، ومؤشر جوهري على نجاح الدولة والمجتمع.
أولًا: في معنى السعادة
ليست السعادة لحظة عابرة من الفرح، ولا حالة مؤقتة من اللذة، بل هي حالة وجودية مستمرة نسبياً، يشعر فيها الإنسان بالانسجام بين ذاته ومحيطه، بين طموحه وواقعه، بين حريته ومسؤوليته، بين حاجاته المادية وتطلعاته الروحية.
السعادة إذًا هي:
تحقق التوازن بين عناصر المركب الحضاري الخمسة (الإنسان، الأرض، الزمن، العلم، والعمل)، ضمن إطار قيمي يراعي الفطرة الإنسانية ويوجهها نحو الكمال.
ثانيًا: مجالات السعادة
للسعادة وجوه عديدة، يجدر بكل نظام حضاري أن يوفّر أدواتها ومناخها. نذكر أبرز مجالاتها:
1.السعادة الفردية: هي شعور الإنسان بالسلام الداخلي، والرضا عن الذات، والإحساس بقيمته وكرامته.
2. السعادة المعاشية: وتتحقق حين تتوفر الحاجات المعيشية الأساسية من مأكل، ملبس، سكن، دخل كريم، وتوازن اقتصادي يسمح بالحياة الكريمة من دون قلق دائم أو فقر مدقع.
3. السعادة الاجتماعية: وهي ثمرة العلاقات الإنسانية الدافئة، والأسرة المتحابة، والمجتمع المتكافل، والإحساس بالانتماء غير القهري لجماعة حاضنة.
4. السعادة السياسية: وتنبع من المشاركة في الشأن العام، والعيش في ظل نظام عادل، يكفل الحرية والحقوق، ويُحسن إدارة التنوع والاختلاف.
5. السعادة الصحية: وتشمل الصحة الجسدية والعقلية والنفسية، باعتبارها شروطًا مسبقة للإحساس بالرضا عن الحياة.
6. السعادة الروحية/القيمية: وهي الشعور بالارتباط بمعنى أعلى، وغائية كبرى، سواء عبر الدين أو الالتزام الأخلاقي أو الفلسفة الإنسانية، وهي جوهر البُعد الحضاري في رؤية السعادة.
ثالثًا: كيف نصل إلى السعادة؟
السعادة لا تُمنح جاهزة، ولا تُشترى، بل تُبنى وتُربّى وتُخطط ضمن مشروع حضاري طويل الأمد. للوصول إليها نحتاج إلى:
• العدالة في توزيع الفرص والثروات والكرامة.
• التربية على الوعي، والانفتاح، والتسامح، والعمل المنتج.
• الحرية التي تُوازن بين الحقوق والواجبات.
• القيم التي تُهذب الرغبات، وتُوجّه الطموحات.
• المؤسسات العادلة التي تصون كرامة الإنسان وتدير شؤونه بشفافية.
• السياسات العامة التي تضع جودة الحياة على رأس الأولويات.
السعادة، بهذا المعنى، هي نتاج تفاعل بين الفرد والمجتمع، بين الدولة والمواطن، بين القيم والمؤسسات.
رابعًا: ماذا يفعل الإنسان ليكون سعيدًا؟
على الصعيد الفردي، تُبنى السعادة من الداخل، لكنها تحتاج بيئة حاضنة في الخارج. يمكن للإنسان أن:
• يعرف نفسه ويتقبلها، ويسعى لتطويرها دون جلد.
• يوازن بين رغباته وحاجاته، دون إفراط أو تفريط.
• يرتبط بالآخرين دون ذوبان، ويستقل دون عزلة.
• يعمل ويُنتج ويُبدع، لأن العمل مصدر معنى وكرامة.
• يتحلى بالإيمان أو المعنى، لأن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده.
• يسامح ويتسامح، لأن الحقد ينهش النفس ويمنع السلام الداخلي.
لكن حتى مع هذا، تظل السعادة الفردية ناقصة في غياب بيئة اجتماعية عادلة، ونظام سياسي رحيم، ومجتمع متعاون.
خامسًا: السعادة مسؤولية جماعية
في الرؤية الحضارية، السعادة ليست شأنًا فرديًا فحسب، بل هي مسؤولية اجتماعية وجماعية ودولية.
كل فرد مسؤول عن سعادة غيره بقدر ما هو مسؤول عن سعادته. كل مؤسسة، من الأسرة إلى الدولة، تُسأل عن دورها في صناعة أو هدم السعادة.
الدولة التي لا تضع “مؤشر السعادة العامة” في صميم تقييم أدائها، تضل الطريق.
والمجتمع الذي لا يرعى أضعف أفراده، يُنتج شقاءً جماعيًا، ولو بدا لبعض أفراده مرفّهًا.
سادسا، شروط تحقق السعادة: بين الفرد والمجتمع
ليست السعادة حالة طارئة أو أمنية عشوائية، بل هي ثمرة منظومة متكاملة من الشروط التي ينبغي أن تتوافر على مستوى الفرد والمجتمع والدولة. ومن منظور حضاري، تتحقق السعادة حين تُراعى الشروط التالية:
1. العدالة الاجتماعية والسياسية: بحيث يشعر الإنسان بالمساواة في الكرامة والحقوق والفرص، بعيدًا عن الظلم والتمييز.
2. الكفاية المعيشية: أي تلبية الحاجات الأساسية للإنسان من غذاء، سكن، دخل كريم، وخدمات أساسية تضمن له حياة كريمة.
3. الأمن الجسدي والنفسي: فلا سعادة مع الخوف أو التهديد المستمر، سواء أكان ماديًا أم معنويًا.
4. الحرية المسؤولة: حرية الفكر والتعبير والعمل ضمن حدود تحترم الآخرين وتضمن السلم الاجتماعي.
5. المعنى الروحي والقيمي: شعور الإنسان بانتمائه إلى غاية كبرى، وقيم سامية تضفي المعنى على وجوده.
6. العلاقات الاجتماعية التعاونية المتينة: من الأسرة إلى الأصدقاء إلى المجتمع، فالعزلة تقتل السعادة، والتواصل الصادق يحييها.
7. نظام تربوي داعم للوعي والتمكين: تربية تقوم على تحرير العقل، وتنمية الفطرة، وتعزيز الثقة بالنفس.
8. مؤسسات فعالة ونزيهة: تؤدي واجبها في خدمة الإنسان لا التحكم به، وتُمارس دورها بشفافية وعدالة.
9. توازن الإنسان مع الطبيعة: احترام البيئة، والحفاظ على الموارد، والعيش بانسجام مع النظام الكوني.
10. روح المسؤولية الجماعية: السعادة ليست مشروعًا فرديًا فقط، بل هي التزام جماعي، تبدأ من الذات وتمتد للآخرين.
إن بناء هذه الشروط لا يتم دفعة واحدة، بل عبر رؤية حضارية شاملة، تضع الإنسان في المركز، وتُعيد توجيه السياسات والمؤسسات نحو صناعة الحياة الطيبة، لا مجرد إدارة البقاء.
خاتمة
إنّ جعل الإنسان سعيدًا، ليس أمنية مثالية، بل غاية يمكن السعي إليها وتحقيقها إذا توفرت الرؤية، والإرادة، والنظام. وفي مشروع الدولة الحضارية الحديثة، نضع “السعادة الإنسانية” هدفًا مركزيًا، نُعيد عبره بناء العلاقة بين الدولة والمواطن، وبين الفرد والمجمع، وبين الإنسان والكون.
محمد عبد الجبار الشبوط