صراع السيادة والمواقف الأخلاقية

واشنطن وجنوب أفريقيا.. أزمة دبلوماسية متصاعدة

المقاربة الجنوب الأفريقية للقضية الفلسطينية ترتكز على تشابه عميق بين تجربة الفصل العنصري وبين ما يحدث في غزة والضفة الغربية ولهذا لا ينظر إلى الصراع كمجرد نزاع حدودي بل كقضية أخلاقية

في زمن تتقاطع فيه السياسة الدولية مع المصالح الاقتصادية والأيديولوجية، لم تعد التحالفات القديمة ضمانًا للاستقرار. فها هي العلاقات بين الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا تدخل منعطفًا حادًا، مع تلويح واشنطن بفرض عقوبات على مسؤولين في بريتوريا، في مشهد يعكس تصاعد التوترات الجيوسياسية في ظل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. فهل نحن أمام أزمة عابرة أم بداية لقطيعة استراتيجية؟
ففي خطوة مثيرة للجدل، صوّتت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي على مشروع قانون يقترح مراجعة العلاقات الثنائية مع جنوب أفريقيا، ويفتح الباب أمام فرض عقوبات محتملة على بعض المسؤولين في بريتوريا. السبب؟ موقف جنوب أفريقيا المناهض لـكيان العدو، ودعواها القانونية التي قُدّمت أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها تل أبيب بارتكاب إبادة جماعية في غزة.
بريتوريا وواشنطن.. من النضال إلى التعاون
لطالما كانت العلاقات الأميركية الجنوب أفريقية تتأرجح بين التقارب والتوجس. بعد انتهاء نظام الفصل العنصري عام 1994، سعت واشنطن لتعزيز التعاون مع دولة شهدت تحولاً ديمقراطياً ملهمًا. لكن مع مرور السنوات، بدأت بريتوريا تتخذ مواقف مستقلة، تميل تدريجياً نحو التنسيق مع قوى غير غربية كروسيا والصين، وتتبنى خطاباً أكثر جرأة في الشؤون الدولية، خصوصاً تجاه القضية الفلسطينية.
وعندما قررت جنوب أفريقيا أن تقدّم دعوى ضد كيان العدو أمام محكمة العدل الدولية، لم يكن الأمر مجرد خلاف دبلوماسي، بل تحدي مباشر للرواية الغربية الرسمية، وإعلان عن استقلالية القرار السياسي حتى في أكثر الملفات حساسية.
الجنوب العالمي في خندق السيادة
جنوب أفريقيا لا تتحرك في فراغ. إنها دولة تنتمي إلى الجنوب العالمي، وترى نفسها ضمن جبهة الدول التي تسعى لكسر الاحتكار الغربي للتعريفات الأخلاقية والسياسية. ومع عضويتها في مجموعة «بريكس»، تزداد ثقتها في تبني سياسات مستقلة، حتى لو أغضبت واشنطن.
مواقفها المؤيدة لفلسطين ليست مجرد تصريحات؛ بل هي نابعة من تجربة طويلة في مقاومة الظلم. من يقف خلفها ليس فقط حكومتها، بل مجتمع مدني نابض، ونقابات، وكنائس، ومثقفون، يرون في القضية الفلسطينية انعكاساً لمعاناتهم السابقة تحت نظام الفصل العنصري.
مشروع القانون الأميركي.. تصعيد غير مسبوق
أقرّت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي مشروع قانون يدعو إلى مراجعة شاملة للعلاقات الثنائية مع جنوب أفريقيا، على خلفية ما اعتُبر انحيازاً متزايداً لبريتوريا لقوى مناوئة لواشنطن، أبرزها روسيا والصين، إلى جانب دعمها المفترض لحركة المقاومة الإسلامية (حماس).
وتقدّم بمشروع القانون النائب الجمهوري رونّي جاكسون، الذي وصف علاقات جنوب أفريقيا بأنها «تحالف مع الشيوعيين والإرهابيين»، مطالباً بفرض عقوبات على مسؤولين في الحكومة وحزب المؤتمر الوطني الحاكم. ورغم أن المشروع لا يزال بحاجة إلى تصويت في مجلسَي النواب والشيوخ قبل أن يصبح قانوناً نافذاً، فإن إقراره في اللجنة يُعدّ مؤشراً واضحاً على تصاعد الخلافات، لا سيّما في ظل سياسات دونالد ترامب، الذي اتّهم سلطات جنوب أفريقيا بـ«التمييز العنصري ضد البيض»، وأطلق برنامجاً خاصاً لاستقبال لاجئين من ذوي الأصول الأوروبية (الأفريكانيين). وكذلك صدر أمر تنفيذي بتجميد المساعدات الأميركية، التي تشمل دعمًا لبرامج مكافحة الإيدز بقيمة 320 مليون دولار سنويًا.
جنوب أفريقيا تتحرك قانونياً
التحرك القانوني الذي قامت به جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية لم يكن مجرد إجراء رمزي، بل خطوة مدروسة تهدف إلى إعادة الاعتبار للقانون الدولي، وتقديم القضية الفلسطينية في إطار قانوني يواجه السردية الغربية الرسمية. المحكمة قبلت النظر في الدعوى وأصدرت إجراءات مؤقتة تطالب كيان العدو بوقف القتال وحماية المدنيين. عندما قررت جنوب أفريقيا اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، كانت تعلم أن المسار القانوني قد يكون أقل ضجيجاً من الساحات السياسية، لكنه أكثر فاعلية في إحداث أثر عالمي. هذه الخطوة، بالنسبة لكثيرين، تُشكل سابقة مهمة تعيد الاعتبار للقانون الدولي، وتمنح القضية الفلسطينية وجهاً قانونياً شرعياً أمام المؤسسات الأممية.
من مانديلا إلى غزة.. التاريخ يعيد نفسه
من يتأمل مواقف جنوب أفريقيا، يكتشف أنها ليست وليدة اللحظة. نيلسون مانديلا نفسه قال ذات مرة: «حرية جنوب أفريقيا لن تكتمل إلا بحرية فلسطين». هذا الموقف لم يكن مجرد خطاب، بل تحول إلى سياسة واضحة تتجدد مع كل حكومة تحكم بريتوريا.
إن المقاربة الجنوب أفريقية للقضية الفلسطينية ترتكز على تشابه عميق بين تجربة الفصل العنصري وبين ما يحدث في غزة والضفة الغربية. ولهذا لا يُنظر إلى الصراع كمجرد نزاع حدودي، بل كقضية أخلاقية يجب الوقوف عندها بإرادة قانونية وسياسية.
واشنطن في مأزق أخلاقي
الولايات المتحدة، رغم قوتها الاقتصادية والعسكرية، تجد نفسها في مواجهة جديدة من نوع مختلف، مواجهة رمزية تهدد سرديتها وتفضح تناقضاتها في الدفاع عن حقوق الإنسان.
المشروع الذي قدّمه النائب الجمهوري روني جاكسون يتّهم جنوب أفريقيا بتقويض المصالح الأميركية، ويقترح مراجعة كاملة للعلاقات الثنائية. لكن في جوهره، يعكس انزعاجاً من دولة صغيرة قررت تحدي منطق الهيمنة، والدفاع عن قيم تراها سامية. هل تخاف واشنطن من جنوب أفريقيا؟ ليس بالمعنى التقليدي. لكنها تشعر بالانزعاج من رمزية هذا التحدي، ومن إمكانية أن يُلهم دولاً أخرى في الجنوب العالمي لاتباع النهج نفسه. 
فلسطين في قلب الانقسام الحزبي الأمريكي
مواقف واشنطن الخارجية تجاه فلسطين لم تعد بعيدة عن الداخل الأميركي، فالجيل الشاب، وخصوصاً من الحزب الديمقراطي، يتجه نحو تأييد حقوق الفلسطينيين. والجالية السوداء تربط بين معاناتها ومأساة الفلسطينيين.الجمهوريون، من جهتهم، يسعون لتعزيز التحالف مع كيان العدو، ويستخدمون القضية كورقة تعبئة انتخابية. في هذا السياق، المشروع ضد جنوب أفريقيا لا يُقرأ فقط على أنه رد خارجي، بل كرسالة موجهة للداخل الأميركي، من يقف ضد كيان العدو يواجه العقاب.
فعالية العقوبات.. بين الضغط السياسي والتكلفة الاستراتيجية
يفتح مشروع القانون الباب أمام فرض عقوبات على مسؤولي جنوب أفريقيا، لكن الخبراء يشككون في فعالية هذه الأدوات فالعقوبات نادراً ما تغير السياسات الخارجية للدول ذات السيادة.وفي بعض الأحيان، تؤدي إلى تعزيز الدعم الداخلي للحكومة المستهدفة، وقد تُسرّع في ابتعاد هذه الدول عن الفلك الأميركي نحو شركاء أكثر استقلالاً، كالصين وروسيا.
أمّا ردود الفعل الدولية تعكس موقع كل دولة في هذا الصراع، فالجزائر، فنزويلا، وعدة دول في الجنوب العالمي عبّرت عن تأييدها لموقف جنوب أفريقيا. أما أوروبا فقد انقسمت بين دعم غير مشروط لكيان العدو وبين انتقادات داخلية لحرب غزة، بينما روسيا والصين تقفان بثبات إلى جانب بريتوريا، كجزء من إعادة تشكيل النظام العالمي.
البعد الجيوسياسي.. بريكس في مرمى النيران
الإجراءات المحتملة قد تؤثر على جنوب أفريقيا اقتصادياً منها خسارة امتيازات تجارية ضمن برنامج، AGOAتوتر مع الشركات الأميركية الكبرى.لكن بالمقابل، تستطيع بريتوريا تحويل هذا التحدي إلى فرصة لتعزيز تنويع شراكاتها التجارية والسياسية، خصوصاً مع دول «بريكس».
هذا وقد أثارت مشاركة جنوب أفريقيا في قمة «بريكس» الأخيرة بالبرازيل حفيظة واشنطن، التي وصفت المجموعة بأنها «تحالف معادٍ لأميركا». وقد فرض ترامب رسومًا جمركية بنسبة 31% على الواردات الجنوب أفريقية، في خطوة اعتُبرت عقابية. ويرى مراقبون أن واشنطن تسعى إلى كبح تمدد بريكس ونفوذها في النظام العالمي الجديد.
مشروع القانون الأميركي ضد جنوب أفريقيا ليس مجرد إجراء تشريعي عابر، بل مرآة تعكس شكل النظام العالمي اليوم. بين الرغبة في السيطرة ومحاولات استرداد العدالة، تقف بريتوريا وحدها تقريباً في مواجهة آلة ضغط هائلة، لكنها تحمل معها تاريخاً يُلهم، وموقفاً يُحترم.
قد تُعاقَب اقتصادياً، وقد تُعزل سياسياً، لكن الأكيد أنها سجلت موقفاً سيدرّس في التاريخ السياسي الحديث: أن الشجاعة تبدأ من قول الحقيقة، حتى لو كانت مكلفة.
المصدر: الوفاق/ خاص