من وعد بلفور إلى مسؤولية الاعتراف
في عام 1917، أصدرت بريطانيا وعد بلفور الذي تعهدت فيه بدعم إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، دون أي اعتبار لحقوق السكان الأصليين من الفلسطينيين. هذا الوعد، الذي شكّل الأساس السياسي لقيام دولة الاحتلال الصهيوني لاحقًا، يُنظر إليه اليوم على أنه أحد أبرز مظاهر الظلم التاريخي الذي ساهمت فيه بريطانيا تجاه الشعب الفلسطيني.
النواب البريطانيون، في رسالتهم الأخيرة، لم يتجاهلوا هذا الإرث، بل أشاروا إليه صراحة، مؤكدين أن الاعتراف بدولة فلسطين سيكون بمثابة تصحيح لمسار تاريخي خاطئ، وتجسيد لمسؤولية بريطانيا كقوة منتدبة سابقة على فلسطين. كما شددوا على أن دعم بريطانيا لحل الدولتين منذ عام 1980 لم يُترجم إلى خطوات عملية، وأن الاعتراف الرسمي سيمنح هذا الموقف مصداقية حقيقية.
مبادرات برلمانية سابقة
لم تكن الدعوة الأخيرة للاعتراف الفوري بدولة فلسطين حدثًا معزولًا، بل جاءت امتدادًا لسلسلة من التحركات البرلمانية البريطانية التي تعكس تغيرًا تدريجيًا في المزاج السياسي داخل المملكة المتحدة تجاه القضية الفلسطينية.
في عام 2014، صوّت البرلمان البريطاني بأغلبية ساحقة لصالح الاعتراف بدولة فلسطين، في تصويت رمزي غير ملزم، إذ أيّد القرار 274 نائبًا مقابل 12 فقط. ورغم أن الحكومة حينها لم تتخذ خطوة تنفيذية، إلا أن التصويت شكّل نقطة تحول في الخطاب السياسي البريطاني، وأظهر دعمًا شعبيًا وبرلمانيًا متزايدًا للقضية الفلسطينية.
وفي مارس/ آذار 2025، قدّمت البارونة نورثوفر من حزب «الديمقراطيين الأحرار» مشروع قانون خاص في مجلس اللوردات تحت اسم «مشروع قانون الاعتراف بدولة فلسطين»، والذي ينص على إلزام الحكومة البريطانية بالاعتراف الرسمي بفلسطين كدولة ذات سيادة، على أساس حدود ما قبل عام 1967، ويؤكد على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. ورغم أن المشروع لم يتحول إلى قانون بعد، إلا أنه أعاد فتح النقاش داخل الأوساط التشريعية حول توقيت الاعتراف وأبعاده القانونية والدبلوماسية.
وفي يوليو/تموز 2025، أصدرت لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان البريطاني تقريرًا حاسمًا، دعت فيه الحكومة إلى الاعتراف الفوري بدولة فلسطين، مشيرةً إلى أن «كيان العدو لا يصغي للمملكة المتحدة، وأن الضغط يجب أن يُمارس لإنهاء الحرب وإطلاق سراح الرهائن». وأكدت رئيسة اللجنة، النائبة العمالية إميلي ثورنبري، أن «الاعتراف يجب أن يتم الآن، قبل أن لا يبقى هناك دولة يمكن الاعتراف بها».
كما شهد الشهر نفسه أيضًا توقيع 221 نائبًا من مختلف الأحزاب على رسالة جماعية تطالب الحكومة بالاعتراف الرسمي، وهو ما يمثل ثلث أعضاء مجلس العموم البريطاني. وتضمنت الرسالة توقيع نواب من حزب العمال، المحافظين، الديمقراطيين الأحرار، الحزب الوطني الاسكتلندي، حزب الخضر، وحزب بلايد كيمرو، ما يعكس إجماعًا سياسيًا نادرًا حول القضية.
وفي وقتٍ سابق من الشهر نفسه، وجّه 59 نائبًا من حزب العمال رسالة إلى وزير الخارجية ديفيد لامي، دعوه فيها إلى الاعتراف الفوري، مؤكدين أن «عدم الاعتراف يُضعف موقف بريطانيا من حل الدولتين، ويُكرّس الوضع القائم».
من التصويت الرمزي إلى مشاريع القوانين
لم تكن المبادرات البرلمانية البريطانية الداعية للاعتراف بدولة فلسطين وليدة لحظة أو مدفوعة بانفعالات آنية، بل جاءت تتويجًا لمسار طويل من التراكمات السياسية والإنسانية التي شكّلت وعيًا جديدًا داخل المملكة المتحدة. فقد تزايدت الفظائع في غزة، وتكاثرت الاتهامات باستخدام التجويع كسلاح حرب، في ظل عجز صارخ للمجتمع الدولي عن إيقاف آلة القتل. هذا الواقع المأساوي ساهم في اهتزاز الثقة بالوساطة الغربية التقليدية، وفتح الباب أمام مراجعة جذرية للموقف البريطاني.
في الوقت نفسه، بدأ المزاج الشعبي داخل بريطانيا يتحوّل، لاسيما بين الشباب والناشطين السياسيين، الذين باتوا أكثر حساسية تجاه القضايا الإنسانية والحقوقية. ارتفعت أصوات منظمات حقوق الإنسان، ومعها مواقف جاليات بريطانية مسلمة ويهودية مناهضة للاحتلال، تطالب بالعدالة ورفع الظلم، ما عزّز الزخم البرلماني داخل مجلسَي العموم واللوردات.
وجاءت هذه التحركات في سياق دولي متغيّر أيضًا، إذ تستعد فرنسا للاعتراف رسميًا بدولة فلسطين، فيما سبقها كل من إيرلندا، إسبانيا، والنرويج بخطوات شجاعة عزّزت الضغط على بريطانيا. هذا السياق المركّب دفع المملكة المتحدة إلى مفترق طرق سياسي وأخلاقي، حيث لم يعد بإمكانها التزام الصمت، بل بات عليها اتخاذ موقف يعكس قيمها المعلنة ويعيد تعريف دورها العالمي في لحظة حرجة من التاريخ.
الرسالة البرلمانية.. مضمونها وتوقيتها
الرسالة التي نظّمتها النائبة العمالية سارة تشامبيون، رئيسة لجنة التنمية الدولية في البرلمان، جاءت في توقيت حساس للغاية، بعد إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن نية بلاده الاعتراف بدولة فلسطين رسميًا في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول المقبل. هذا الإعلان الفرنسي شكّل ضغطًا إضافيًا على بريطانيا، التي لطالما اعتُبرت حليفًا تقليديًا لكيان العدو، ودفع النواب إلى التحرك السريع.
الرسالة تضمنت دعوة واضحة وصريحة لرئيس الوزراء كير ستارمر، تطالبه باتخاذ موقف حاسم، وعدم الاكتفاء بالتصريحات الدبلوماسية.
الحكومة البريطانية.. بين التردد والضغوط
رغم تصاعد الدعوات البرلمانية، فإن الحكومة البريطانية برئاسة «كير ستارمر» لم تُعلن حتى الآن موقفًا نهائيًا. تصريحات وزير العلوم والتكنولوجيا بيتر كايل، التي أشار فيها إلى دعم لندن للاعتراف النهائي بدولة فلسطين، جاءت مشروطة بوقف إطلاق النار في غزة، وتخفيف المعاناة الإنسانية.
ستارمر نفسه أكد أن الاعتراف يجب أن يكون جزءًا من «خطة أوسع للسلام»، لكنه لم يحدد جدولًا زمنيًا أو خطوات عملية. هذا التردد يُفسَّر على أنه محاولة لموازنة الضغوط الداخلية من النواب، والضغوط الخارجية من الحلفاء، خصوصًا الولايات المتحدة، التي لا تزال تعارض الاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية.
فرنسا تقود التحول.. هل تلحق بها بريطانيا؟
إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن اعتراف بلاده بدولة فلسطين شكّل نقطة تحول في الموقف الأوروبي. فرنسا، كأكبر دولة في مجموعة السبع، كسرت حاجز الصمت، وأعلنت أنها ستتخذ الخطوة رسميًا في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
هذا الإعلان أثار ردود فعل غاضبة من كيان العدو والولايات المتحدة، لكنه في الوقت نفسه فتح الباب أمام دول أخرى، مثل إيرلندا، إسبانيا، والنرويج، التي سبق أن اعترفت بفلسطين، لتشكيل كتلة ضغط دولية. بريطانيا، التي لطالما كانت حذرة في مواقفها، تجد نفسها الآن أمام خيارين: إما اللحاق بالركب الأوروبي، أو الاستمرار في التردد، ما قد يُفقدها مصداقيتها الأخلاقية والدبلوماسية. وهكذا في زمن تتسارع فيه الأحداث، وتتشابك فيه المصالح، تبرز لحظات نادرة يكون فيها القرار السياسي أكثر من مجرد موقف. دعوة النواب البريطانيين للاعتراف بدولة فلسطين ليست مجرد رسالة، بل هي صرخة في وجه الظلم، ومطالبة بإعادة الاعتبار لشعب طُمس وجوده لعقود.