عباس خامه يار*
في فجر السبت، فقدت سماءُ الثقافة والفنّ في إيران نجماً من نجومها، فقدَ قلبي أيضاً قطعةً من روحه. لم يكن الأستاذ محمود فرشجيان (1930 ــ 2025) فناناً فريداً وحسب، بل كان نغمةً خالدة في أوركسترا الروح والإيمان لهذا الشعب وهذه الأرض؛ نغمةً ارتبطت بوجهَي حياتي معاً: منذ أيام مسؤوليتي في مؤسّسة الشهيد وشؤون المضحّين، حيث مشينا مع زملائنا على درب ترسيخ ثقافة الإيثار والشهادة، وحتى سنوات مهمّتي الثقافية خارج الحدود، كان اسمه يلمع في حلقات النخب والصالونات الشعبية والفكرية والنخبوية في المنطقة كجوهرةٍ في خاتم فخر إيران.
وكان له بين الشيعة في العالم محبّةٌ خاصّة لا ينالها إلّا عظماء التاريخ. البيوت والحسينيّات والقلوب كانت عامرةً بذكراه واسمه. وفي وسط كلّ هذا، كان «عصر عاشوراء» كرايةٍ مرفوعة؛ لم يكن مجرّد صورةٍ لواقعة تاريخية، بل كان جسراً يصل بين ثقافة إيران ومحبّ أهل البيت(ع) وفلسفة كربلاء الدامية. ذلك اللوح كان صرخةً صامتة خرجت من أعماق الإيمان، وروايةً كُتبت بالقلم لكن بلغة الدمع والحب.
وقد قال الأستاذ بنفسه إنّ يده، يومذاك، تحرّكت بالقلم في عزلة البيت من دون أن يقصد أو يتعمّد، وما استقرّ على اللوح، بلا أي تعديل، هو ما نراه اليوم أمام أعيننا؛ صورةٌ مركزها خالٍ من حضور الإمام الحسين عليه السلام، كي يكون الحزن أعمق والفقد أشدّ إيلاماً.
إنّ فنّه لم يستقرّ في إطارٍ على الجدار، بل سكن في القلوب. وقد زيّن ضريح الإمام الحسين عليه السلام بالفن والزخرفة، فأبهج بذلك قلوب المؤمنين والمحبين.
وفيما كان من أبرز جرّاحي القلب في أميركا، وحين ضاق به نفس الحياة واحتاج قلبه إلى مشرط الجراحة، لم يتردّد في اللجوء إلى الإمام الرضا عليه السلام، ذلك الإمام الرؤوف، في مشهد المقدّسة.
وبفضل عنايته وكرامته، وقعَت معجزةٌ فتعافى قلبه من غير أي عمليّة جراحية. إنّ لوحته الخالدة «ضامن آهو – ملجأ الغزال» وتصميمه وصنعه لضريح الإمام الرضا عليه السلام، مرآةٌ مشعّة من ثمرات عمره المبارك المفعم بالحبّ والمعرفة؛ وكشوفاته الروحية وأحلامه المتكرّرة برؤية الإمام الرضا عليه السلام كانت شاهداً على تعلّقه العميق بذلك الإمام الرؤوف.
كم مرّة سعيتُ إلى إقامة احتفال تكريمي دولي له في إحدى دول الخليج الفارسي حيث كانت مهمّتي، وكان البلد المضيف يعدّ ذلك شرفاً كبيراً يحرص عليه، ولكنّ تواضع الأستاذ لم يسمح بذلك. وما أزال أذكر وجوه حرّاس الحدود اللبنانيين حين عبورنا من الحدود السورية، إذ کانوا یطلبون بشغفٍ طفولي أن يحصلوا على ملصق أو نسخة من أعماله.
لم يكن الأستاذ رسّاماً بارعاً على اللوح فحسب، بل كان يرسم على لوح الأرواح أيضاً. وفي أيّام الضغوط والغربة، ثبت من دون تردّد على حبّه لـ «إيران». إنّ صلته بالجرحى والمضحّين قد صنعت مشاهد تملأ الحلق غصّةً عند كلّ من يراها؛ كما في ذلك اليوم من خرداد 1390هـ.ش، حين كان بين الجرحى المكفوفين، فترك الكلام لدموعه، وقال عند إزاحة الستار عن لوحة «الجرحى الكفيفين»: «أنا أقبّل أيديكم؛ استقلال هذا الوطن مدين لكم».
كانت تلك اللوحة صورةً لشابّ قد بذل عينيه في سبيل الله، غير أنّ وجهه كان مغموراً بنورٍ إلهي. وكان الأستاذ يقول: «هذا النور هو نور الله نفسه، الذي يسطع من أعماق أرواح الجرحى ليضيء العالم».
ولا أنسى أبداً بهمن 1383هـ.ش، حين أقمنا أوّل مؤتمر وطني لتكريم المضحّين. لم يحضر الأستاذ بسبب وجوده في أميركا، ولكنّ صورته الحيّة على الشاشة أضفت دفئاً على أجواء القاعة، وكأنّ روحه قد حضرت من آلاف الكيلومترات لتشارك الجمع.
واليوم، وقد غاب عنّا، لم يبقَ سوى آثاره وذكراه، التي تظلّ كشمعةٍ تضيء درب الثقافة والإيمان. إنّ الأستاذ محمود فرشجیان لم يكن وجهاً خالداً لفنّ المنمنمات الإيراني فحسب، بل كان تجسيداً لثقافة وأخلاق وعظمة وإيمان أمّة بأكملها. رحل، ولكنّ قلمه رُسم على لوح الخلود، وهذه البصمة لن يبهت لونها أبداً.
رحم الله ذكراه.
* المستشار الثقافي الإيراني السابق في بيروت