سير القيم على طريق كربلاء المقدسة

أربعينية الإمام الحسين(ع).. حين يتحول الحزن إلى حضارة والدمعة إلى نهضة

خاص الوفاق: الإمام الحسين(ع) ليس في الماضي، بل فينا، في كل لحظة نرفض فيها الذل، ونُحيي فيها الحق، ونمضي على العهد، عهد لا يُكسر.

في زمنٍ تتآكل فيه المعاني وتُختزل فيه الشعائر، تظل أربعينية الإمام الحسين(ع) حدثاً استثنائياً يعيد للإنسانية بوصلتها الأخلاقية. إنها ليست مجرد مسيرة مليونية، بل رحلة وجودية نحو الحقيقة، حيث يتحول الطريق إلى كربلاء المقدسة لفضاء روحي، وتتحول الخطى إلى إعلانٍ صامت عن الولاء، والدمعة إلى وعدٍ لا يُكسر: “إنا على العهد”. في هذه المناسبة، تتلاقى الفنون، والإنشاد، والطفولة، والمعرفة، لتنسج معاً لوحة حضارية عنوانها: “الحسين(ع) حيٌّ فينا”.

 

نعم.. في كل عام، ومع اقتراب أربعينية الإمام الحسين(ع)، تتجه أنظار العالم نحو كربلاء المقدسة، بوصفها مركزاً روحياً وثقافياً عالمياً. أربعينية الامام الحسين(ع)، مناسبة تجاوزت حدود الطقس الديني، لتغدو ظاهرة إنسانية، حضارية، وفنية، تعبّر عن إرادة الحياة في وجه الموت، والكرامة في وجه الذل، والوعي في وجه التجهيل.

 

من الطف إلى العالم؛ الامام الحسين(ع) أيقونة المقاومة

 

واقعة كربلاء المقدسة عام 61 هـ لم تكن مجرد حدث تاريخي، بل لحظة مفصلية في الوعي الإنساني. الإمام الحسين(ع)، الذي خرج رافضاً للظلم، لم يكن يسعى إلى سلطة أو جاه، بل إلى إحياء القيم التي كادت أن تُدفن تحت ركام الاستبداد. وفي الأربعين، لا يحيي الزائرون ذكرى رجل قُتل، بل يستحضرون رسالة خالدة: أن الإنسان قادر على أن يقول “لا” في وجه الطغيان، مهما كان الثمن.

 

العلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان وصف كربلاء المقدسة بأنها “إعادة الدين إلى مساره الأصيل”، فيما أكد الشهيد مرتضى مطهري أن سرّ خلود عاشوراء يكمن في أن “الحسين فضّل الموت بعزّ على الحياة بذلّ”. هذا الخيار أصبح معياراً خالداً لقياس الكرامة الإنسانية، وأساساً لنهضة الشعوب في وجه الاستعمار والاستبداد.

 

الزحف المليوني.. تجلّي الهوية الجماعية

 

من منظور ثقافي واجتماعي، تُمثل الأربعين حالة فريدة من التفاعل بين التاريخ والوجدان. الملايين الذين يسيرون على الأقدام نحو كربلاء المقدسة، لا يفعلون ذلك بدافع العادة، بل بدافع الانتماء إلى منظومة قيمية تتجدد كل عام. إنها رحلة تأمل داخلي، حيث يتحول الطريق إلى كربلاء المقدسة إلى فضاء روحي، يعيد تشكيل الهوية الفردية والجماعية، ويُعيد تعريف معنى الوفاء والولاء.

 

شعار “إنا على العهد” الذي يتردد على طريق النجف الاشرف إلى كربلاء المقدسة، لا يُقال من باب المجاز، بل يُعاش بكل تفاصيله. في هذا الصف، يسير الشيعي والسني، المسيحي والإيزدي، بل حتى غير المسلم الذي يحمل حبّ الحسين(ع) في قلبه، جنباً إلى جنب. الوفاء بالعهد هنا ليس مجرد عبارة، بل هو منهج حياة، متجذر في الإيمان والفطرة، كما أكد أمير المؤمنين(ع): “أفضل الأمانة، الوفاء بالعهد”.

 

الفن الحسيني.. من اللوحة إلى الرسالة

 

في العتبة الرضوية المقدسة، افتُتحت فعالية “روضة فن عاشوراء” بمشاركة 12 فناناً من مختلف أنحاء البلاد، في مبادرة تهدف إلى إحياء أيام محرم والأربعين عبر الفن. هذه الفعالية، التي احتضنتها مدرسة “دو درب” التاريخية، لم تكن مجرد معرض فني، بل كانت منصةً ثقافيةً لنشر قيم عاشوراء، وتكريم الفنانين الثوريين الذين جعلوا من الحسين أيقونةً للحرية والكرامة.

 

أمير خالقي، أحد منظمي الفعالية، أكد أن هذا الحدث لا يُعد فقط فرصة للفنانين لعرض أعمالهم في مكان مقدس وتاريخي، بل يُعد أيضاً وسيلة لنشر ثقافة عاشوراء والقيم الإنسانية والاجتماعية المرتبطة بها. وقد شهدت الفعالية حضور أساتذة بارزين في مجال الرسم، وستُعرض الأعمال للجمهور حتى ليلة الأربعين.

 

“موكب‌دار”.. ترجمة طفولية لمسيرة الكبار

 

لعبة “موكب‌دار” أي”صاحب الموكب” اللوحية، التي صُممت للأطفال، تمثل خطوة ذكية في ترجمة مفاهيم الأربعين إلى لغة الطفولة. من خلال بطاقات، موارد، ومواقف، يتعلم الطفل معنى الإيثار، الخدمة، والصبر، في تجربة ترفيهية تربوية. هذه اللعبة لا تكتفي بالتسلية، بل تزرع في الطفل بذور الانتماء إلى ثقافة المقاومة والكرامة، وتفتح باباً للحوار الأسري حول القيم الحسينية.

 

اسم اللعبة بسيط ومعبر.. “موكب‌دار”. يلعب المشاركون فيه دور من يُنشئون موكباً لخدمة زوار أربعين الإمام الحسين(ع)؛ موكبٌ يلبي احتياجاتهم الأساسية، ويعكس روح الضيافة والإيثار الشيعي. إنها تجربة تعليمية ذات مغزى، تنقل للطفل مفاهيم مثل التعاطف، الأولوية، والتضحية.

 

المعرفة في خدمة الحضارة

 

النسخة الجديدة من الكتاب الإلكتروني “بقيادة الامام الحسين(ع)”، الذي يجمع كلمات قائد الثورة آية الله العظمى السيد علي الخامنئي حول زيارة الأربعين، تمثل مساهمة معرفية في قراءة الأبعاد الحضارية لهذه المسيرة. الكتاب لا يكتفي بالتأريخ، بل يعيد رسم ملامح مشروع حضاري إسلامي، يستند إلى قيم عاشوراء، ويطمح إلى بناء مجتمع قائم على العدل والوعي والكرامة.

 

الإنشاد الحسيني.. صوت المقاومة والوفاء

 

في فيديو إنشادي بعنوان “أبطال المقاومة”، وجّه المنشد العراقي “أشرف التميمي” تحية ترحيب خاصة للزوار الإيرانيين، قائلاً: “أهلاً بكم أبطالِ المقاومة”. القصيدة تمزج بين الحماسة السياسية والولاء الحسيني، وتُبرز وحدة الشعوب في مواجهة الظلم، مستلهمةً من عاشوراء روح التحدي والصمود: ” لوخَيّرنا طاغي الزمان.. لو مد لنا كف الأمان.. تعلمنا من الحسين(ع) القرار.. هيهات من الذلة الشعار.. وشهدنا انتصار ايران، في هذه الملحمة.. أهلا بكم أبطال المقاومة.. كفو ونعمين بهذا الشعب الذي ما قصّر.. اتّبع نهج الحسين ورفض كف الشر.. بدأ يضرب الصهيوني وحرث أرضه بالنار.. بعزم ذوالفقار وصواريخ خيبر.. لبنان معكم والعراق.. وأهل اليمن كلها اشتياق.. تحقق بالحسين الإنتصار..  بجاه الحسين(ع) وحدتنا دائمة.. أهلا بكم أبطال المقاومة..”.

 

وفي عمل آخر بعنوان “زوار أبي السجاد”، قدّم المنشد الإيراني “أبوذر روحي” تحية روحية للزوار، بكلمات شاعرية تعبّر عن الشوق والبركة والرجاء في لقاء الإمام الحسين(ع): “أهلا بكم زوار أبي السجاد طوبى لزوارِ أبي عبدِ الله، ما شاءَ الله وارزقْنا المشيَ إليهِ يا ربَّ العرشِ اللهمَّ بارِكْ لمولانا الحسين(ع)”.

أما محمد أسداللهي، فقد ربط في “طريق المهدي” بين مسيرة الأربعين وانتظار الإمام المهدي(عج)، في رؤية تجمع بين الماضي والمستقبل، بين الدم والفرج: “طريق الحسين(ع)، طريق المهدي حتى يوم الفرج، أنا على العهد نرى رايته، ونصل إلى الإمام المهدي(عج)”.

 

الشعر في خدمة الذاكرة

 

الشعر الحسيني لا يزال حياً، يعبّر عن الحزن والولاء، ويُعيد تشكيل الوجدان. من أجمل ما قيل في الأربعين، قصيدة تحت عنوان: “يتاماك نحن” ، جاء في قسم منها: “نــحـن أيــــتـام الحســــينِ هل لنا يا كربـلاء.. أن نـــزور الأب نشكو في السِـبي ما أصابنا.. ونضـــم القبر شوقـاً فهو مـذ قـد رحــــــلا.. ما رأيـــــنـا غــــــير هــــم ٍ غــير غـم ٍ وبـلاء.. فاتركــــينا نغـــــسل القبر بدمـــعـات ِ الأسى..عـلّــنا بالدمـــــع نروي ســـــيداً مـات ظما..”.

 

الأربعين تجلٍّ حيّ لضمير الأمة

أربعينية الإمام الحسين(ع) ليست مجرد مناسبة دينية، بل هي وعد متجدد بأن القيم لا تُدفن، وأن الإنسان قادر على أن ينهض، مهما اشتد الظلام. إنها دعوة مفتوحة لكل من يحمل في قلبه حبّاً للحق، ليكون على العهد… لأن الحسين(ع) حيٌّ فينا، ما دمنا نختار طريق النور، ونرفض الذل، ونُحيي القيم، في كل خطوة نحو كربلاء المقدسة، وفي كل موقف من مواقف الحياة.

ليست الأربعين مجرد ذكرى، بل هي تجلٍّ حيٌّ لضمير الأمة، ومرآةٌ تعكس قدرتها على الوفاء، والصمود، والتجدد. في كل خطوة نحو كربلاء المقدسة، هناك رسالة تقول: إن القيم لا تُدفن، وإن الدم الطاهر أقوى من السيف، وإن الإنسان، مهما اشتد الظلام حوله، قادر على أن يختار طريق النور. الحسين(ع) ليس في الماضي… بل فينا، في كل لحظة نرفض فيها الذل، ونُحيي فيها الحق، ونمضي على العهد، عهدٌ لا يُكسر.

 

المصدر: الوفاق/ خاص