في عالم تتشابك فيه المصالح وتتصادم فيه السياسات، لم تعد الحروب تُخاض بالسلاح وحده، بل باتت الرسوم الجمركية والعقوبات الاقتصادية أدوات فعّالة في رسم خرائط النفوذ وإعادة تشكيل التحالفات. وبينما كانت العلاقات بين الولايات المتحدة والهند تُصنّف ضمن الشراكات الاستراتيجية المتينة، جاءت قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب برفع الرسوم الجمركية على المنتجات الهندية إلى 50% لتفتح باباً جديداً من التوتر، وتدفع بالمراقبين إلى التساؤل: هل نشهد بداية حرب باردة جديدة، ولكن هذه المرة بين واشنطن ونيودلهي؟
الهند، بثقلها السكاني والاقتصادي، لم تعد مجرد لاعب إقليمي، بل باتت رقماً صعباً في المعادلة الدولية. وقرارها الاستراتيجي بالانفتاح على روسيا في مجال الطاقة، رغم التحذيرات الأميركية، شكّل نقطة تحوّل في علاقتها مع واشنطن. فهل كان هذا القرار بداية لانفراط عقد التحالف؟ وهل تستطيع الولايات المتحدة تحمّل خسارة شريك آسيوي بهذا الحجم؟ أم أن الهند، رغم الضغوط، ستعيد تموضعها ضمن تكتلات جديدة تعيد رسم ملامح النظام العالمي؟ السؤال هنا كيف يمكن لقرار جمركي أن يهزّ توازنات دولية عمرها عقود.
النفط الروسي يشعل فتيل الأزمة
منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، اتخذت الولايات المتحدة موقفاً صارماً تجاه روسيا، وفرضت عليها عقوبات اقتصادية غير مسبوقة. وفي هذا السياق، كان من المتوقع أن تلتزم الدول الحليفة، ومنها الهند، بسياسة تقليص العلاقات التجارية مع موسكو. لكن نيودلهي، التي تواجه تحديات طاقوية ضخمة بسبب تعدادها السكاني الهائل، اختارت طريقاً مختلفاً.
الهند قررت زيادة وارداتها من النفط الروسي، ليس بدافع التحدي، بل لحماية اقتصادها من الانهيار. فأسعار النفط الروسي كانت أقل بكثير من السوق العالمي، وشروط الدفع كانت ميسّرة، ما جعل هذا الخيار مثالياً للهند. لكن ترامب، الذي يرى في كل برميل نفط روسي دعماً مباشراً للحرب في أوكرانيا، اعتبر الخطوة الهندية خيانة للتحالف، وردّ عليها بفرض رسوم جمركية إضافية بلغت 25%، لتصل إلى 50% على العديد من المنتجات الهندية الحيوية.
سلاح اقتصادي أم عقاب سياسي؟
الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب لم تكن مجرد إجراء اقتصادي، بل حملت في طياتها رسالة سياسية واضحة: من لا يلتزم بالخط الأميركي، سيدفع الثمن. والهند، التي تُعد رابع أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، تلقت هذه الرسالة بقسوة.
القطاعات المستهدفة شملت المنسوجات، والأدوية، والسلع الزراعية، وقطع غيار السيارات، وهي قطاعات تشكّل العمود الفقري للصادرات الهندية. ومع ارتفاع الرسوم إلى 50%، أصبحت هذه المنتجات أقل تنافسية في السوق الأميركي، ما يهدد بانهيار عقود توريد بمليارات الدولارات.
الاقتصاد الهندي في مرمى النيران
وفق تقديرات غرفة التجارة الهندية، فإن قرار ترامب سيكبّد الهند خسارة لا تقل عن 12 مليار دولار سنوياً من قيمة صادراتها إلى الولايات المتحدة. ومع كون أميركا ثاني أكبر سوق خارجي للهند، فإن هذه الخسائر قد تؤدي إلى اختلال في الميزان التجاري، وضغوط على العملة المحلية، وتراجع في الاستثمارات الأجنبية.
شركات هندية عملاقة مثل «تاتا موتورز» و«ماهندرا» بدأت بالفعل في مراجعة استراتيجياتها، وبعضها يفكّر في نقل جزء من عملياته إلى أسواق أخرى، مثل جنوب شرق آسيا أو أميركا اللاتينية، هرباً من الجمارك الأميركية الباهظة.
الضربة القاصمة في المعركة التجارية
الهند تُعرف بـ«صيدلية العالم»، وتُصدّر قرابة 8.7 مليار دولار من الأدوية إلى الولايات المتحدة سنوياً، أي ما يعادل 30% من صادراتها العالمية. لكن هذا القطاع الحيوي بات مهدداً بالانهيار، مع الرسوم الجديدة التي جعلت المنتجات الهندية أقل جدوى تجارياً.
شركات مثل «صن فارما» و«دكتور رديز» تواجه خطر فقدان عقودها، ما يهدد آلاف الوظائف، ويضع أكثر من 4 ملايين وظيفة مرتبطة بالتصدير إلى أميركا في دائرة الخطر. وما يزيد الطين بلة، أن أكثر من 40% من الأدوية البديلة التي تُستهلك في الولايات المتحدة تأتي من مصانع هندية، ما يعني أن الأزمة قد تمتد لتطال المستهلك الأميركي أيضاً.
لماذا تصرّ الهند على موقفها؟
رغم الضغوط، لم تتراجع الهند عن قرارها بشراء النفط الروسي. فنيودلهي ترى أن أمنها الطاقوي فوق كل اعتبار، وأن البدائل من الخليج الفارسي وأميركا أكثر كلفة ولا تلبّي احتياجاتها المتزايدة. كما أن الهند بدأت تبحث عن حلول بديلة، مثل الاتفاقات النفطية بالعملات المحلية بعيداً عن الدولار، ما يعكس توجهاً نحو فك الارتباط التدريجي بالمنظومة المالية الغربية.
الهند تدرك أن التراجع أمام الضغط الأميركي سيضعف استقلالها السياسي، ويجعلها تابعاً لا شريكاً. ولهذا، فإنها تفضّل تحمّل الخسائر الاقتصادية على أن تتنازل عن سيادتها في اتخاذ القرار.
هل يتغيّر شكل التحالفات الدولية؟
الضغط الأميركي على الهند قد يأتي بنتائج عكسية، إذ يدفعها نحو تعميق علاقاتها مع روسيا والصين، ضمن تكتلات مثل «بريكس» و«منظمة شنغهاي». وهذا التحوّل قد يعيد تشكيل النظام العالمي، ويضعف الهيمنة الأميركية على الاقتصاد الدولي.
الهند، التي كانت تُعتبر حليفاً محتملاً في مواجهة الصين، قد تجد نفسها مضطرة للتحالف معها، إذا استمرت واشنطن في سياسة العقاب. وهذا السيناريو يُقلق صناع القرار في أميركا، الذين يدركون أن خسارة الهند تعني خسارة موطئ قدم استراتيجي في آسيا.
هل من أفق للحل؟
وسط هذا التوتر، يبقى الأمل معقوداً على اللقاء المحتمل بين رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي و دونالد ترامب، خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. فالمصادر تشير إلى أن الهدف الرئيسي من الزيارة سيكون إجراء محادثات مباشرة لحل القضايا التجارية والجمركية.
هذا اللقاء، إن تم، قد يكون فرصة لإعادة بناء الثقة، وتجاوز الخلافات، خصوصاً أن العلاقات بين البلدين تتجاوز الاقتصاد، وتشمل التعاون في مجالات الدفاع والتكنولوجيا والتعليم.
بين العقاب والتحدي
ما يحدث بين واشنطن ونيودلهي ليس مجرد خلاف تجاري، بل هو اختبار حقيقي لقدرة الدول على الحفاظ على استقلالها في ظل الضغوط الدولية. الهند، التي تواجه تحديات ضخمة، اختارت طريقاً صعباً، لكنه يعكس رغبتها في أن تكون قوة مستقلة، لا تابعاً.
أما الولايات المتحدة، فإن سياستها العقابية قد تؤدي إلى نتائج عكسية، وتدفع بحلفائها نحو خصومها. وفي عالم يتغيّر بسرعة، فإن من ينجح هو من يستطيع بناء تحالفات قائمة على الاحترام المتبادل، لا على الإملاءات.
الحرب التجارية بين واشنطن ونيودلهي قد تكون بداية لتحوّل كبير في النظام العالمي، فإما أن تُعيد الدول الكبرى حساباتها، أو أن نشهد ولادة نظام جديد، تُكتب قواعده في موسكو وبكين، وتُوقّع عليه نيودلهي.