في عام 2025، تغيّرت لهجة الخطاب الأوروبي بشكل لافت. القارة التي لطالما تغنّت بالدبلوماسية، حقوق الإنسان، والتكامل الاقتصادي، وجدت نفسها فجأة أمام واقع جديد: إنفاق عسكري غير مسبوق بلغ 381 مليار يورو، بزيادة 10% عن العام السابق. هذا الرقم ليس مجرد مؤشر مالي، بل هو إعلان صريح بأن أوروبا تعيد تشكيل أولوياتها وفق منطق القوة، لا وفق منطق المبادئ.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا ليس فقط عن حجم الإنفاق، بل عن دوافعه. لماذا تقفز ميزانيات الدفاع بهذا الشكل؟ ومن المستفيد الحقيقي من هذا التحول؟ الإجابة، كما يبدو، لا تنبع من داخل أوروبا نفسها، بل من خارجها. وتحديداً من واشنطن، حيث عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حاملاً معه أجندة أمنية صارمة، لا تعترف بالحلفاء إلا إذا دفعوا الثمن كاملاً.
فهل أوروبا تُسلّح نفسها لحماية شعوبها؟ أم أنها تُسلّح نفسها لحماية مصالح الآخرين؟ وهل هذا الإنفاق الهائل يعزز قدرة القارة على الصمود أم يضعف بنيتها الاقتصادية؟ دعونا نروي القصة من البداية؟
واشنطن تُقرر وأوروبا تُنفّذ
منذ اللحظة الأولى لعودة ترامب إلى الرئاسة، كان واضحاً أن العلاقات عبر الأطلسي ستدخل مرحلة جديدة من التوتر. فترامب لم يخفِ امتعاضه من ما اعتبره “تقاعساً أوروبياً” في تحمل أعباء الدفاع الجماعي ضمن حلف الناتو. وفي خطاباته المتكررة، طالب الدول الأوروبية بزيادة إنفاقها العسكري إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، موزعة بين 3.5% للإنفاق الدفاعي المباشر و1.5% للبنى التحتية والأمن السيبراني.
هذه المطالب لم تكن مجرد توصيات، بل كانت مشروطة باستمرار الدعم الأميركي، سواء في مجال الاستخبارات أو الانتشار العسكري. وبذلك، تحولت العلاقة بين واشنطن وبروكسل من شراكة إلى علاقة مشروطة، حيث يُطلب من أوروبا الدفع مقابل الحماية، في مشهد يعيد إلى الأذهان منطق “المرتزقة” أكثر من منطق الحلفاء.
وفي هذا السياق، أعلنت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، أن “أوروبا تنفق مبالغ قياسية على الدفاع للحفاظ على سلامة شعوبنا”، لكنها لم تُخفِ أن هذا الإنفاق يأتي في ظل ضغوط أميركية متزايدة.
شركات السلاح الأميركية المستفيد الاول
حين ننظر إلى توزيع الإنفاق العسكري الأوروبي، نجد أن نحو 130 مليار يورو من أصل 381 مليار ستُخصص لاستثمارات تشمل أسلحة جديدة. لكن السؤال الأهم هو: من يبيع هذه الأسلحة؟
الجواب، في معظم الحالات، هو الولايات المتحدة. فشركات مثل “لوكهيد مارتن”، “رايثيون”، “نورثروب غرومان”، و”جنرال دايناميكس” تهيمن على سوق السلاح العالمي، وتُعتبر المورد الرئيسي للدول الأوروبية، خاصة في مجال الطائرات المقاتلة، أنظمة الدفاع الجوي، والتكنولوجيا السيبرانية.
وبذلك، يتحول الإنفاق العسكري الأوروبي إلى مصدر دخل ضخم للاقتصاد الأميركي، في وقت تعاني فيه بعض الدول الأوروبية من أزمات اقتصادية واجتماعية حادة. فهل يُعقل أن تُخصص هذه المبالغ الضخمة للدفاع، بينما تُخفض ميزانيات التعليم والصحة في بعض الدول؟
من الأكثر إنفاقاً ولماذا؟
وفقاً لتقارير وكالة الدفاع الأوروبية، فإن الدول الأكثر إنفاقاً على الدفاع في عام 2025 تشمل:
– ألمانيا: رفعت ميزانيتها العسكرية بنسبة 15%، مدفوعة بضغوط داخلية وخارجية، خاصة من واشنطن.
– بولندا: تستهدف إنفاقاً يصل إلى 5% من ناتجها المحلي، في ظل التزامها الصارم بتوجيهات الناتو.
– فرنسا: عززت إنفاقها على الأسلحة النووية والتكنولوجيا الدفاعية، في محاولة للحفاظ على استقلالية استراتيجية.
– دول البلطيق: رغم محدودية قدراتها الاقتصادية، رفعت إنفاقها بشكل كبير استجابة للضغوط الأميركية.
لكن هذه الدول، رغم إنفاقها الكبير، لا تملك رؤية دفاعية مستقلة. بل تعتمد بشكل شبه كامل على التكنولوجيا الأميركية، ما يجعلها رهينة للقرار السياسي في واشنطن.
هل أوروبا تفقد استقلالها الاستراتيجي؟
التحول في الإنفاق العسكري الأوروبي لا يمكن فصله عن فقدان الاستقلالية السياسية. فحين تُفرض السياسات الدفاعية من الخارج، وتُحدد الأولويات الأمنية بناءً على مصالح دولة أخرى، فإن ذلك يعني أن أوروبا لم تعد تملك قرارها السيادي الكامل.
وفي هذا السياق، دعا بعض القادة الأوروبيين، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إلى بناء «سيادة دفاعية أوروبية»، تُقلل من الاعتماد على الولايات المتحدة. لكن هذه الدعوات لم تلقَ استجابة واسعة، في ظل الانقسام السياسي داخل الاتحاد الأوروبي، والخوف من مواجهة واشنطن.
مفارقات تُثير تساؤلات أخلاقية وسياسية عميقة
في الوقت الذي تُخصص فيه أوروبا 381 مليار يورو للدفاع، تُخفض ميزانيات التعليم، الصحة، والرعاية الاجتماعية في العديد من الدول. هذه المفارقة تُثير تساؤلات أخلاقية وسياسية عميقة: هل الأمن العسكري أهم من الأمن الاجتماعي؟ وهل يمكن بناء مجتمع مستقر دون ضمانات اقتصادية وإنسانية؟
وفقاً لتقرير صادر عن البنك المركزي الأوروبي، فإن الإنفاق العسكري المتزايد سيؤدي إلى ضغوط مالية كبيرة على الدول، خاصة تلك التي تعاني من ديون مرتفعة. وهذا يعني أن الأجيال القادمة ستدفع ثمن قرارات اليوم، في شكل ضرائب أعلى وخدمات أقل.
كما أشار تقرير لوكالة فيتش للتصنيف الائتماني إلى أن زيادة الإنفاق الدفاعي ستؤدي إلى ارتفاع العجز المالي في معظم الدول الأوروبية، مع صعوبة إجراء تخفيضات موازية في الإنفاق العام، بسبب التحديات السياسية والاجتماعية.
أوروبا أمام خيار تاريخي
الإنفاق العسكري الأوروبي في عام 2025 ليس مجرد رقم قياسي، بل هو انعكاس لتحول عميق في العقلية السياسية للقارة. وبين ضغط أميركي لا يلين، وصمت داخلي متزايد، تجد أوروبا نفسها أمام خيار تاريخي: إما أن تستمر في التبعية، أو أن تبني سياسة دفاعية مستقلة، تُراعي مصالحها الحقيقية، وتُعيد النظر في تحالفاتها.
لكن هذا الخيار يتطلب رؤية استراتيجية، وإرادة شعبية. فهل تملك أوروبا هذه المقومات؟ أم أن الخوف سيظل هو المحرك الأول للقرار السياسي؟ الإجابة لا تزال معلقة، لكن ما هو مؤكد أن السنوات القادمة ستكون حاسمة في رسم ملامح القارة العجوز من جديد.