مجزرة قام بها نظام الشاه البائد بحق أبناء الشعب الإيراني

ذكرى شهداء الجمعة السوداء في مرآة الفن والأدب

الوفاق: الأدب، السينما، الموسيقى، والإذاعة، كلها ساهمت في تخليد هذه الذكرى، لتبقى حاضرة في وجدان الأجيال، تذكّرهم أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع، وأن الدماء التي سُفكت كانت بذوراً لكرامة لا تموت.

في تاريخ الثورات، هناك أيام لا تُنسى، لا لأنها كانت دامية فحسب، بل لأنها غيّرت مسار أمة. ويوم 17 شهريور 1357 هـ.ش الموافق 8 سبتمبر 1978، المعروف بـ «الجمعة السوداء»، هو أحد تلك الأيام التي تحوّلت من لحظة مأساوية إلى نقطة تحول في انتصار الثورة الإسلامية في إيران. في صباح ذلك اليوم، خرج مئات الآلاف من المواطنين إلى ساحة جالة (الشهداء حالياً) في طهران، غير أن النظام البهلوي البائد قد أعلن الأحكام العرفية منذ الفجر، دون إبلاغ المواطنين. وبينما كانوا يهتفون للحرية، واجهوا الدبابات والرصاص، فاستشهد المئات منهم شهداء، بينهم نساء وأطفال.
 

لم تُعرف الأرقام الدقيقة للضحايا، لكن أثر المجزرة كان واضحاً، لقد قضت على أي أمل في المصالحة بين الشعب والنظام البهلوي البائد، وعمّقت الفجوة حتى نقطة اللاعودة. لقد ساهمت هذه المجزرة في تعزيز عزيمة الثوار، وكان لقيادة الإمام الخميني(رض) دور بارز في هذا الانتصار التاريخي. ويمكن اعتبار هذا الحدث عاملاً حاسماً في تصعيد النضال الشعبي وتسريع سقوط النظام البهلوي البائد.

 

الأدب والتوثيق.. من الذاكرة إلى النص

خلّدت عشرات الكتب هذا الحدث، منها: «خطوة بخطوة مع الثورة» لأكبر خليلي، الذي وثّق يوميات الثورة من 17 شهريور حتى انتصارها، «تشريح واقعة» الذي قدّم تحليلات سياسية واجتماعية معمّقة، «التاريخ الشفهي لإنتفاضة 17 شهريور» لمحمد طحان، الذي أعاد سرد المجزرة من خلال شهادات حية وكذلك:

 

– كتاب «محبوبة الصباح»: لراضية تجار، رواية مؤثرة عن الشهيدة محبوبة دانش آشتیاني، فتاة في السابعة عشرة من عمرها، جمعت بين النشاط الثقافي والسياسي، واستشهدت في ذلك اليوم. الرواية تمزج بين الواقع والخيال، وتُظهر كيف يمكن لحياة صغيرة أن تحمل قضية كبيرة.

 

كانت محبوبة دانش آشتیاني فتاة تبلغ من العمر 17 عاماً، تدير مكتبة صغيرة في شارع سيروس بطهران عام 1978، وكانت تحمل الكتب للأطفال المحرومين في جنوب المدينة. وضعت لهم برنامجاً دراسياً منظماً، تروي لهم القصص الإسلامية، وتزرع فيهم وعياً اجتماعياً عميقاً بعيداً عن الضجيج السياسي.

 

رغم صغر سنها، كانت محبوبة طالبة في السنة الأخيرة من الثانوية، وناشطة سياسية تشارك في معظم الفعاليات الثورية، من اجتماعات إلى مظاهرات شعبية، وفي يومٍ كان أحمرَ بالدماء وأسودَ بالحزن، سجّلت اسمها في مدرسة أخرى: مدرسة الشهادة.

 

– الكتاب المصوّر «الجمعة السوداء»: هو الجزء السادس عشر من سلسلة «أيام الثورة» كُتب بأسلوب بسيط وموجّه للمراهقين، بهدف تعريفهم بالحدث المأساوي بلغة قريبة من وجدانهم، ويقدّم سرداً قصصياً للمجزرة، مما يجعله مدخلاً تربوياً لفهم التاريخ الثوري.

 

– كتاب «جذور الثورة الإسلامية الإيرانية وشرح 17 شهريور»: تأليف حسينعلي علامه‌نوري، صدر عن دار «نويد نور»،يتناول العوامل السياسية والاجتماعية التي ساهمت في انتصار الثورة، مع تحليل معمّق لواقعة 17 شهريور. يُبرز دور القيادة الثورية للإمام الخميني(رض)، ويضع الحدث ضمن سياق تاريخي شامل.

 

– رواية «دموع الجمعة»: تأليف مونا إسكندري، صادرة عن دار «سوره مهر». رواية أدبية تدور أحداثها حول فتاة تُدعى «صدّیقة»، تواجه خياراً مصيرياً بين الخضوع للظلم أو السعي نحو الحرية.
تجسّد الرواية صعوبة تلك المرحلة، وتُظهر كيف تحوّلت التضحيات الفردية إلى رموز للصمود الشعبي.

 

 

الفنون التشكيلية والصور

 

هذه الفاجعة لم تؤثر فقط على المجتمع بأسره ودفعته أكثر نحو الثورة الإسلامية، بل تجلّت أيضاً في أعمال عدد من الفنانين.كاظم جليبا، أحد أبرز فناني الثورة، رسم لوحة عن واقعة 17 شهريور. كان حاضراً في موقع المجزرة، فرسم مشهداً مؤلماً لما رآه: امرأة تجلس مذهولة بجوار جثة زوجها وسط شارع مغطى بالدماء والجثث.

 

 

حبيب‌الله صادقي، فنان آخر من رموز الثورة، كان حاضراً في التظاهرات وتعرّض لإصابة أثناء هجوم قوات الشاه المقبور، حتى غطّت دماؤه أجساد الشهداء. هذه التجربة دفعته لاحقاً لرسم عدة لوحات عن 17 شهريور، أبرزها لوحة تُظهر الناس وهم يفرّون من الرصاص، بينما يُحمل جسد شاب شهيد، والخلفية مغمورة بالدماء والدخان.

 

 

إيرج إسكندري استلهم لوحة «الحرية تقود الشعب» من الثورة الفرنسية، ورسم لوحة ضخمة تُظهر حشوداً رمادية وجثثاً في المقدمة. الإخوة شیشه‌كران صمّموا ملصقات ثورية دون تكليف رسمي، مستخدمين الطباعة اليدوية، ووزّعوها سراً بسبب الرقابة. عباس ملكي وثّق المجزرة بصور فوتوغرافية نُشرت بعد انتصار الثورة، لتكون جزءاً من أرشيف الذاكرة البصرية للحدث.كما التُقطت صور للمجزرة بواسطة عباس ملكي، نُشرت بعد انتصار الثورة.

 

 

السينما والتوثيق البصري.. من الكاميرا إلى الوعي

 

تناولت السينما الحدث من زوايا متعددة نذكر بعضها:

 

– فيلم «خونبارش»: أول فيلم سينمائي بعد الثورة، من إخراج أمير قويدل، ومن إنتاج رسول صدرعاملي، يُعد أول عمل سينمائي بعد الثورة، ويتميّز بجرأته في تقديم شخصيات حقيقية جسّدت أنفسها على الشاشة. يروي الفيلم قصة ثلاثة جنود من حرس ثكنة «قصر»، الذين رفضوا إطلاق النار على الشعب يوم 17 شهريور، وانضموا إلى المتظاهرين، ثم فرّوا، وتعرّضوا للملاحقة والتعذيب. ما يجعل الفيلم استثنائياً هو أن كل من شارك فيه كان جزءاً من القصة الأصلية: الأم، الأخت، وحتى من كشف عنهم، أدّوا أدوارهم الحقيقية، في تجربة سينمائية نادرة تمزج بين التوثيق والدراما.

 

وأحد هؤلاء كان الجندي «قاسم دهقان» الذي هو من بين رموز هذا اليوم، يبرز اسمه بشكل واضح، وُلد واستُشهد في 17 شهريور. كان جندياً في الجيش، لكن حين رأى المجزرة، انشق مع رفاقه وانضم إلى الشعب. اعتُقل وعُذّب، وصدر بحقه حكم بالإعدام، لكنه نجا بانتصار الثورة. بعد ذلك، أصبح قائداً في الفرقة 27 محمد رسول الله (ص)، وشارك في أبرز العمليات العسكرية، حتى استُشهد في 17 شهريور 1374 (1995 م) بانفجار لغم، ليكتمل مسار حياته بين ولادة الثورة وشهادته.

 

 

– فيلم «في أعماق الخطوط»: يروي قصة فنان للخط العربي يتورط في الأحداث الثورية ويُعتقل ظلماً، ثم يخرج أكثر نضجاً ليحصل على شهادة الأستاذية في الخط.

 

– الفيلم الوثائقي «في مواجهة العاصفة»: من إخراج مهدي نقويان هو سلسلة تتناول تاريخ نظام بهلوي البائد، مع التركيز على الأحداث التي أدّت إلى انتصار الثورة الإسلامية.

 

وكذلك فيلم وثائقي وحيد عن الحدث وهو من أعمال أبو الفضل دوست ‌محمديان، الطالب العائد من الخارج، هو الوحيد الذي وثّق المجزرة بالفيديو. وبمغامرة جريئة، أرسل الفيلم إلى الخارج عبر زميله في المطار، ليصل إلى الإعلام العالمي ويكشف حقيقة ما جرى.

 

 

الصوت الثوري.. من الإذاعة إلى الأناشيد

 

قدّمت إذاعة «راديو نمايش» عرضاً إذاعياً بعنوان «مثلث»، من إخراج مهدي نميني‌مقدم، يروي قصة ثلاثة شهداء من انتفاضة 17 شهريور، بأسلوب درامي مؤثر. أما الفنان حميد شاهنغيان، فقد ألّف أنشودة «17 شهريور» بشكل سري، وسجّلها بصوته منفرداً، ثم دمج التسجيلات لتبدو كأنها أداء جماعي. لاحقاً، أعاد تقديمها مع فرقة إنشاد، وأصبحت من أبرز الأعمال الموسيقية المرتبطة بذكرى الجمعة السوداء. وفي الذكرى الثلاثين للثورة، أُعيد أداؤها بقيادة رازمیك أوهانيان، لتبقى شاهدة على أن الدماء التي سُفكت لن تُنسى.

 

 

من الدم إلى الوعي

 

إن 17 شهريور لم يكن مجرد يوم في التقويم، بل لحظة فارقة في الوعي الجمعي الإيراني. لقد تحوّل من مجزرة إلى رمز، ومن ألم إلى إرادة، ومن صمت إلى صوت. الأدب، السينما، الموسيقى، والإذاعة، كلها ساهمت في تخليد هذه الذكرى، لتبقى حاضرة في وجدان الأجيال، تذكّرهم أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع، وأن الدماء التي سُفكت كانت بذوراً لكرامة لا تموت.

 

 

المصدر: الوفاق