في عالمٍ تتسارع فيه الأزمات، وتتمدد فيه الحروب، وتنهار فيه الدول، يبقى اللجوء آخر ما يملكه الإنسان ليحمي حياته. هو ليس امتيازًا، بل حقٌ مكتسبٌ من صميم الكرامة الإنسانية. لكن هذا الحق، الذي وُلد من رحم الكارثة العالمية في منتصف القرن العشرين، بات اليوم مهددًا من قبل من ادّعى حمايته.
في خطوة أثارت جدلًا واسعًا، كشفت وثائق داخلية أن إدارة دونالد ترامب تخطط للضغط على الأمم المتحدة لإعادة صياغة مفهوم اللجوء، بما يتماشى مع رؤيتها التقييدية. هذه الخطوة ليست مجرد تعديل إداري، بل هي محاولة لإعادة تعريف الإنسانية وفق منطق الهيمنة والمصلحة.
من اتفاقية جنيف إلى جدار ترامب
بعد الحرب العالمية الثانية، اجتمعت الدول لتقول «كفى»، ووقّعت على اتفاقيات دولية تضمن حق الإنسان في اللجوء إذا تعرّض للاضطهاد. كانت الولايات المتحدة من أبرز الداعمين لهذا التوجه، باعتبارها قوة عالمية صاعدة تسعى لترسيخ قيم الحرية والديمقراطية.
لكن هذه الصورة بدأت تتآكل تدريجيًا، خاصة مع صعود التيارات اليمينية المتطرفة، وتحوّل الخطاب السياسي الأميركي من الدفاع عن الحقوق إلى الدفاع عن الحدود. ومع وصول ترامب إلى السلطة، تحوّل الجدار الحدودي إلى رمزٍ للسياسة الجديدة: سياسة الإقصاء، والتمييز، والانتقاء.
خطة ترامب في الأمم المتحدة
وفق الوثائق التي راجعتها «رويترز»، فإن وزارة الخارجية الأميركية وضعت خطة لعقد فعالية على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، تدعو فيها إلى إعادة صياغة النهج العالمي للجوء والهجرة. بموجب هذه الخطة: يُطلب من طالبي اللجوء طلب الحماية في أول بلد يدخلونه، وليس في الدولة التي يختارونها كما أن اللجوء سيكون مؤقتًا، وتقرّر الدولة المضيفة ما إذا كانت الظروف في بلدهم الأصلي قد تحسّنت بما يكفي للعودة.
ومن ثم يُعاد تعريف اللجوء باعتباره أداة تُستخدم «بشكل روتيني لتمكين الهجرة الاقتصادية»، كما ورد في إحدى الوثائق. هذا التوجّه يُعد انقلابًا على المبادئ التي أرستها الاتفاقيات الدولية منذ أكثر من سبعين عامًا، ويحوّل اللجوء من حق إنساني إلى امتياز سياسي.
واشنطن تتاجر بالإنسانية
ما تقوم به إدارة ترامب لا يمكن وصفه إلا بأنه كيد سياسي. فالدولة التي لطالما قدّمت نفسها كحامية للحرية، تتحوّل اليوم إلى مصدر تهديد للضعفاء والمضطهدين. تتاجر واشنطن بالإنسانية، وتستخدم اللجوء كورقة ضغط، وتُعيد إنتاج خطاب استعلائي يُقسّم البشر وفق العرق والجغرافيا والموقف السياسي.
هذا الكيد لا يُقاس بالكلمات، بل بالنتائج: آلاف العالقين على الحدود، آلاف المرحّلين قسرًا، آلاف الأطفال الذين يُفصلون عن أهاليهم، آلاف القصص التي لا تجد من يسمعها.
انتقاء اللاجئين وفق الهوية السياسية
الأخطر في خطة ترامب ليس فقط تقليص عدد اللاجئين، بل انتقاؤهم وفق معايير أيديولوجية. فبحسب الوثائق، قد تُعطى الأولوية للأوروبيين الذين يُستهدفون بسبب آرائهم السياسية، مثل معارضة الهجرة أو دعم الأحزاب الشعبوية.
هذا التوجّه يكشف عن نزعة عنصرية واضحة، حيث يُفضّل اللاجئ الأبيض على غيره، ويُكافأ من يتبنّى خطابًا يمينيًا متطرفًا. إنه إعادة إنتاج لفكرة «اللاجئ الصالح»، الذي يُمنح الحماية لأنه يتماشى مع المزاج السياسي للدولة المضيفة.
السيادة والواجب الأخلاقي
القرار الأميركي لا يُعبّر فقط عن رغبة في تقليص عدد اللاجئين، بل يكشف عن أزمة أعمق: كيف توازن الدول بين سيادتها وبين واجبها الأخلاقي تجاه الإنسان؟ هل يحق لدولة أن تُعيد صياغة مفهوم اللجوء بما يخدم مصالحها السياسية؟ وهل يمكن أن تُصبح الحماية الإنسانية خاضعة للمزاج السياسي؟
هذه الأسئلة لا تخص الولايات المتحدة وحدها، بل تمسّ كل دولة تدّعي احترامها لحقوق الإنسان.
الأمم المتحدة؛ ساحة المعركة الجديدة
اختارت إدارة ترامب أن تخوض هذه المعركة في قلب الأمم المتحدة، المؤسسة التي ترمز إلى التعاون الدولي والعدالة الإنسانية. عبر الضغط على الدول الأعضاء، تسعى واشنطن إلى إعادة تعريف اللجوء، وتحويله من حق إنساني إلى امتياز سياسي.
هذا التوجّه يهدّد بتفكيك الاتفاقيات الدولية، ويضع ملايين اللاجئين في مواجهة مستقبل مجهول، ويُعيد إنتاج منطق “النجاة بالواسطة”، حيث لا يُحمى الإنسان لأنه مهدد، بل لأنه مفيد سياسيًا.
اللجوء؛ اختبار للضمير
اللجوء ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو تعبير عن إنسانية الدول. حين تفتح دولة حدودها لمن يهرب من الموت، فهي تقول: «نحن نؤمن بأن الحياة تستحق الحماية». أما حين تُغلق الحدود، وتُقيّد الحقوق، وتُعيد الناس إلى الجحيم، فهي تقول: «نحن نؤمن بالقوة، لا بالرحمة».
اللجوء هو اختبار للضمير، وهو المرآة التي تعكس مدى التزام الدول بالقيم التي تدّعي الدفاع عنها.
الدفاع عن الاتفاقيات الإنسانية
مارك هيتفيلد، رئيس منظمة «إعادة توطين اللاجئين»، دافع عن الاتفاقيات العالمية، مؤكدًا أنها تضمن للناس طريقًا للهروب من الاضطهاد. وقال: «إذا وصل أي شخص إلى حدود أي دولة هربًا من الموت لأسباب عرقية أو دينية أو جنسية أو اجتماعية أو سياسية، فله الحق في الحماية».
هذا التصريح يعكس حجم الخطر الذي تمثّله السياسات الأميركية الجديدة، ليس فقط على اللاجئين، بل على الضمير الإنساني العالمي.
العالم بات يُدار بمنطق القوة
في مواجهة هذا الانقلاب على القيم الإنسانية، يُطرح سؤال جوهري: هل يسكت العالم؟ هل تقبل الدول بأن تُعيد صياغة اللجوء وفق رؤية ترامب؟ أم أن هناك من سيقف دفاعًا عن الحق في الحياة، وعن كرامة الإنسان؟
إن ما يحدث اليوم ليس مجرد تعديل في السياسات، بل هو اختبار للضمير العالمي. فإما أن نُدافع عن حق الإنسان في الهروب من الموت، أو نُسلّم بأن العالم بات يُدار بمنطق القوة والعنصرية والمصلحة.
وإذا كانت الأمم المتحدة قد نشأت لمنع تكرار مآسي القرن الماضي، فإن عليها اليوم أن تُثبت أنها لا تزال قادرة على حماية الإنسان من جنون السياسات الأميركية.
اللجوء صرخة حياة
اللجوء ليس رفاهية، بل هو صرخة حياة. هو آخر ما يملكه الإنسان حين تنهار دولته، وتُغلق الأبواب، ويُصبح الموت أقرب من الأمل. حين تُعيد واشنطن صياغة هذا الحق، فهي لا تُعدّل قانونًا، بل تُعيد تشكيل العالم وفق منطق الهيمنة.
لكن العالم ليس واشنطن وحدها. هناك شعوب، وهناك منظمات، وهناك ضمائر حيّة. وإذا كان اللجوء هو صرخة، فإن الاستجابة لها هي ما يُعيد للإنسان كرامته.