الفن التشكيلي.. ذاكرة المقاومة
الفن التشكيلي، منذ نشأته، لم يكن محايداً. بل كان دائماً مرآة للوجدان الجمعي، ووسيلة لتوثيق اللحظات المفصلية في حياة الشعوب. من الجداريات الثورية إلى الملصقات السياسية، ومن المنحوتات التي تخلّد الشهداء إلى اللوحات التي تصرخ بالحق، كان الفن التشكيلي شريكاً في المقاومة، لا مجرد متفرج.
وفي السياق الفلسطيني، لطالما كانت الفنون التشكيلية وسيلة لتثبيت الهوية، وتوثيق النكبة، واستعادة الأرض بصرياً. أعمال فناني مثل ناجي العلي، سليمان منصور، تمام الأكحل، وغيرهم، شكّلت أرشيفاً بصرياً للمقاومة، لا يقل أهمية عن الوثائق السياسية أو الخطابات الإعلامية.
قافلة الصمود، وإن كانت فعلاً إنسانياً ميدانياً، فإن حضورها في الفضاء الفني يفتح الباب أمام تفاعل ثقافي عالمي. فالفن لا يحتاج إلى ترجمة، وهو قادر على تجاوز الحواجز السياسية واللغوية، ليصل إلى وجدان الإنسان أينما كان. من هنا، فإن تحويل القافلة إلى عمل تشكيلي هو دعوة مفتوحة للفنانين في العالم ليشاركوا في صياغة خطاب بصري مقاوم، يعيد الاعتبار للقيم الإنسانية في وجه الظلم.
في ظل هذا التحرك الإنساني، انضم فنانون تشكيليون من مختلف أنحاء العالم إلى قافلة «الصمود»، ليجعلوا من هذه الحملة مشهداً بصرياً حياً، يمكن لمَن يعيشون بعيداً عن البحر أن يلمسوا من خلاله حكاية غزة وصوت أطفالها.
وفي تفاعل فني عالمي مع انطلاق «قافلة الصمود»، قام فنانون ومصممون غرافيكيون من إيران ومختلف أنحاء العالم بتصميم صور وملصقات مستوحاة من هذه المبادرة الإنسانية. القافلة، التي تُعد الأكبر من نوعها، انطلقت من تونس باتجاه غزة، بهدف تقديم الدعم والمساعدة للشعب الفلسطيني المظلوم، وقد جمعت مشاركين من مختلف الدول تحت راية واحدة: الصمود.
هذا التحرك، الذي يتم عبر قافلة بحرية، أثار ردود فعل واسعة في أنحاء العالم، وأطلق موجة تضامن فني وشعبي ضد السياسات الصهيونية، دعماً لحقوق الفلسطينيين. وقد عبّر الفنانون عن هذا التضامن من خلال أعمال بصرية تحمل رمزية المقاومة والأمل، وتُجسّد وجداناً عالمياً يقظاً في وجه الظلم.
في زمن يسوده الصمت السياسي والتضليل الإعلامي، خرج أسطول يضم سفن من جنسيات وثقافات متعددة، يحمل علماً واحداً فقط: علم فلسطين. هذه القافلة، التي أُطلق عليها اسم «الصمود»، تمثل تعهداً جماعياً بالأمل والمقاومة، وتجسيداً حياً للضمير الإنساني.
وقد عبّر الفنانون عن هذا الحدث من خلال تصميمات غرافيكية ولوحات فنية، تحوّلت إلى صور خالدة في الذاكرة البصرية العالمية: سفن تشقّ الأفق، وأعلام فلسطين ترفرف بفخر فوق مياه البحر، في مشهد أقرب إلى لوحة مرسومة منه إلى صورة إخبارية.
الملصقات التي أبدعها الفنانون امتلأت بسفن ذات خطوط جريئة وأعلام حمراء وخضراء، تحمل رسالة الصمود، وتُجسّد مشهداً شعرياً بصرياً لأسطول شجاع يبحر على صفحة الماء.
ورغم اختلاف الجنسيات، فإن العلم الوحيد الذي رُفع فوق السفن هو علم فلسطين. هنا، لا معنى للحدود الجغرافية؛ فغزة أصبحت رمزاً للإنسانية، وكل من يخطو نحوها يصبح مواطناً فلسطينياً بالوجدان.
ورغم محاولات التضليل الإعلامي من قبل أمريكا والاحتلال الصهيوني، لا يزال هناك من يستيقظ ضميره لرؤية دماء شهداء غزة، ويقرر أن يخوض غمار البحر من أجل إيصال صوتهم.
من بين الفنانين المشاركين في هذه الحملة: خالد صبح، نادر أسمر، ومحمد فريج من فلسطين، نعيمه فاضلي من إيران، إنريكو أكرولاني من إيطاليا، سوريا من أستراليا، سالي سمير من مصر، وماريا من بلجيكا.
قافلة الصمود ليست مجرد تحرك بحري، بل هي رمزٌ لارتباط الفن بالمقاومة، ودليلٌ على أن الضمير العالمي لا يزال حياً، وأن الفنانين، حتى من على بُعد آلاف الكيلومترات من غزة، يمكنهم أن يكونوا صوتاً للمظلومين، ورسالةً للثبات والكرامة.
في طهران، تحوّلت قافلة الصمود إلى جدارية ضخمة في ساحة وليعصر(عج)، من تصميم بيت مصممي الثورة الإسلامية. حملت الجدارية عبارة «ملاك صغير يحرس سفن الأمل»، في إشارة رمزية إلى الطفولة والحماية والرجاء.
هذه الجدارية، كما وصفها النقاد، ليست مجرد لوحة، بل هي بيان بصري، يختزل الألم والأمل، ويحوّل التضامن إلى فن. وهي امتداد لتقليد بصري بدأ منذ سنوات، حيث تحوّل هذا الميدان إلى منصة مفتوحة للفن المقاوم، تتبدل جدارياته بتبدل الأحداث، وتواكب نبض الأمة.
في زمن تتداخل فيه السياسة بالرمزية، وتُختبر فيه القيم في ساحات الفن، تظل الفنون التشكيلية صوتاً ناعماً لكنه نافذ، قادراً على تحويل التضامن إلى صورة، والموقف إلى لون، والوجدان إلى جدارية. وقافلة الصمود، حين تُرسم، لا تسير فقط على الأرض، بل تسير في الذاكرة، وتُخلّد في الجمال.