مازن الزيدي
وتشكّل التحالف الدولي من 80 دولة، لكنّ واشنطن استثمرت الإرباك الذي شهدته القوات العراقية، وأعادت 8 آلاف من جنودها وخبرائها إلى العراق، ونشرتها في العديد من القواعد العسكرية كـ«عين الأسد» و«الانتصار» و«القيارة» و«حرير».
حينها، طلبت الحكومة العراقية دعماً جوّيّاً فقط، وكان المفترض أن يقوم الطيران التابع للتحالف الدولي بتنفيذ ضرباته انطلاقاً من قواعد إقليمية كتركيا والكويت وقطر وغيرها. لكنّ واشنطن استغلّت الوضع العراقي المربك لزيادة زخمها العسكري على الأراضي العراقي. ولم تلتفت الحكومات العراقية لخطورة هذا الوجود العسكري، إلا بعد اكتشاف النشاطات المشبوهة التي كانت تقوم بها القوات الأميركية على مساحات واسعة من الأراضي العراقية. وبلغت هذه النشاطات العدوانية ذروتها في جريمة مطار بغداد الدولي التي نفّذها الطيران الأميركي بتاريخ 3 كانون الثاني 2020.
إثر ذلك، طلبت حكومة عادل عبد المهدي، من البرلمان العراقي تقرير مصير القوات الأميركية بعد عدوانها على السيادة العراقية. وبتاريخ 5 كانون الثاني صوّت مجلس النواب العراقي على قرار يلزم الحكومة بالعمل على إخراج جميع القوات الأجنبية الموجودة على الأراضي العراقية وفي مقدّمها القوات الأميركية. ومنذ ذلك التاريخ، بات الكثير من العراقيين مع القوى السياسية ينظرون إلى الوجود الأميركي في العراق بوصفه «قوات احتلال» نظراً إلى تجاوزها تفويضها الدولي في الاقتصار على محاربة «داعش».
لكنّ العراق دخل في مرحلة من الفوضى السياسية. فكانت الأحداث على أثر «تظاهرات تشرين»، ثم تشكيل مصطفى الكاظمي حكومة جديدة، لكنها لم تكن جادّة في تنفيذ قرار البرلمان العراقي بإخراج القوات الأميركية. إضافة إلى عوامل أخرى، مثل تداعيات جائحة «كورونا»، ما أبقى الملف عالقاً حتى مجيء حكومة محمد شياع السوداني.
الوفاء بالبرنامج الانتخابي
منذ بداية حملته السياسية التي أوصلته إلى السلطة، وضع السوداني السيادة الوطنية في صميم برنامجه الانتخابي. وهو أكّد في خطاباته أنّ بقاء أي قوة أجنبية على أرض العراق يجب أن يكون خاضعاً لإرادة الدولة العراقية، وليس لاعتبارات سياسية خارجية. هذا الوعد تحوّل إلى محور عمل حقيقي عندما ضُمّن في المنهاج الحكومي الذي صوّت عليه البرلمان في 27 تشرين الثاني عام 2022. وفي النص ما حرفيّته: «مواصلة الحوار مع دول التحالف الدولي بشأن وجود القوات الدولية في العراق وفقاً لما تحدّده الحاجة ومتطلّبات ديمومة الأمن والاستقرار، وهذا يحدّد عبر تقديرات الأجهزة الأمنية ضمن رؤية مهنية وبما يحفظ سيادة العراق ووحدته».
وقد باشرت حكومة السوداني تنفيذ خطوات مدروسة، عبر لجان تفاوضية ثنائية مع الولايات المتحدة، ثم عبر تنسيق عراقي-عراقي بين الرئاسات والكتل السياسية، قبل أن يتوّج هذا المسار باتفاق رسمي يقضي بإنهاء مهمّة التحالف الدولي. وقد أدار السوداني الملف على قاعدة «لا صدام ولا تنازل»، معتمداً أسلوب التهدئة المدروسة لتحقيق الهدف الأساس وهو استعادة السيادة العراقية وإخراج القوات الأجنبية، بما فيها الأميركية، من العراق. كما حرص السوداني على أن تكون المفاوضات محكومة بلغة القانون والاتفاقات الدولية. وأعطى هذا النهج صورة جديدة للعراق بوصفه: دولة قادرة على فرض شروطها بطرق ديبلوماسية من دون أن تخسر شراكاتها الدولية.
المقاومة الناعمة
في أثناء جولات المباحثات التي أجريت بن الجانبين العراقي والأميركي، أثبت السوداني وجود إمكانية لانتزاع استقلال القرار العراقي بمنطق الدولة وأدوات الديبلوماسية الناعمة. وكان أن بدأ مسار مفاوضات الانسحاب رسمياً بلجنة عسكرية مشتركة في كانون الثاني 2024، وثُبّت ذلك في قمّة 15 نيسان 2024 التي جمعت السوداني إلى الرئيس جو بايدن في واشنطن. حيث أشار بيان القمّة إلى أنّ الرئيسين «ركّزا على التطوّر الطبيعي لمهمّة التحالف في ضوء تقدّم قدرات القوات العراقية، وبدء النقاش الفنّي حول حجم وطبيعة الوجود المقبل بعد التحالف».
وبتاريخ 27 أيلول، أصدر الجانبان بياناً مشتركاً أعلنا فيه جدولة إنهاء المهمّة العسكرية للتحالف في العراق خلال 12 شهراً وبحدّ أقصى نهاية أيلول 2025، مع انتقالٍ لاحق إلى شراكات ثنائية في مجالات التدريب والاستخبارات.
إستراتيجية السوداني اعتمدت على تضافر ثلاثة عناصر: 1- الديبلوماسية الهادئة في الحوار مع الأميركيين. 2- الدعم الشعبي والسياسي لموقف الحكومة. 3- مظلّة المرجعية الدينية التي منحت الشرعية لمطلب الخروج. ورغم التوتّرات التي شهدتها المنطقة بعد عملية «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول 2023، ثم الحرب الواسعة على لبنان، ثم ما حصل في سوريا، كما العدوان على إيران، فإنّ السوداني أصرّ على التمسّك بالاتفاق وأصرّ على تنفيذ الاتفاق وفق المهل المحدّدة.
دلالات الانسحاب
إنّ إنهاء مهمّة التحالف الدولي لا يمكن اختزاله في كونه انسحاباً عسكرياً فقط، بل هو حدث إستراتيجي يحمل عدّة دلالات:
1- استعادة السيادة: فقد أثبت العراق أنه قادر على إدارة شؤونه الأمنية من دون وصاية خارجية. 2- تعزيز الوحدة الوطنية: فقد التفّ الشعب العراقي بمختلف مكوّناته حول مطلب إخراج القوات الأجنبية. 3- توازن العلاقات الخارجية: بانسحاب القوات الأميركية، حيث بات العراق أكثر قدرة على بناء علاقات متوازنة مع جميع الأطراف الإقليمية والدولية، بعيداً عن ثنائية الهيمنة أو التّبعية. 4- رسالة إلى العالم، بأنّ ما تحقّق يُعدّ درساً في أنّ الدول قادرة على تحرير قرارها الوطني عبر الصبر والديبلوماسية، وبالمقاومة الناعمة التي كانت أكثر فاعلية في الشأن العراقي.
لقد فتح السوداني الباب لاستعادة السيادة الوطنية، لكنّ استكمال الطريق يحتاج إلى إستراتيجية وطنية بعيدة المدى، قائمة على تطوير القدرات الأمنية، وتعزيز الاقتصاد الوطني، وتحقيق التوازن السياسي الداخلي. ومع قرب إجراء الانتخابات البرلمانية في 11/11 القادم، يكون رئيس الوزراء قد أوفى بأحد بنود منهاجه الحكومي وهو استعادة السيادة عبر اتّباع سياسة النفس الطويل لإخراج القوات العسكرية الأجنبية من العراق، مع التأكيد على ضرورة الانتقال إلى علاقات ثنائية قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة.
إنّ بدء تنفيذ اتفاق الانسحاب الأميركي ليس نهاية لوجود عسكري على الأراضي العراقية، بل هو صفحة جديدة يتخطّى عبرها العراق حقبة من الحروب استمرّت أكثر من ثلاثة عقود. إذ ليس صدفة أن يصوّت الكونغرس الأميركي، في 13 أيلول الجاري، على إنهاء التفويض الذي منح للرئيس الأميركي لشنّ الحرب على العراق في عامي 1991 و2002. وهذا يدلّ على إنهاء رسمي لعهد الحروب الأميركية المباشرة على العراق، وعلى وجود قناعة داخل واشنطن بأنّ الوجود العسكري الواسع لم يعُد مبرَّراً. كذلك بقصد إكمال مسار الانسحاب حسب الجدول المتّفق عليه مع بغداد.
* رئيس مركز المسار العراقي للدراسات