في لحظة مشبعة بالدم والدمار، وبين أنقاض غزة ومخيمات الضفة الغربية، خرجت دول غربية كبرى لتعلن اعترافها الرسمي بدولة فلسطين. لم يكن هذا الاعتراف وليد قناعة مفاجئة بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم، بل جاء بعد سنوات من الصمت، وعقود من التواطؤ، وأشهر من المجازر التي هزّت ضمير العالم. فهل نحن أمام تحول حقيقي في الموقف الدولي؟ أم أن الاعتراف جاء متأخراً، كخطوة رمزية لتبرئة الضمير الغربي من المشاركة غير المباشرة في الإبادة الجماعية؟
الاعترافات المتتالية من بريطانيا، فرنسا، كندا، أستراليا، وغيرها، جاءت في توقيت لا يمكن فصله عن السياق الدموي الذي تعيشه غزة، ولا عن التحولات السياسية داخل هذه الدول نفسها. فالرأي العام الغربي بات أكثر وعياً، وأكثر غضباً، وأكثر إلحاحاً في مطالبته بالعدالة. لكن الاعتراف، رغم أهميته الرمزية، يظل ناقصاً ما لم يُترجم إلى خطوات عملية: وقف العدوان، رفع الحصار، دعم المؤسسات الفلسطينية، وضمان الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني.
منذعامين دخلت غزة في نفق مظلم من القصف والتجويع والدمار. أكثر من 65,000 شهيد، معظمهم من المدنيين، وفق وزارة الصحة في غزة. المجاعة تضرب أحياء غزة، والمخيمات تُهدم في الضفة الغربية، والتهجير الجماعي يُنفذ على مراحل، وسط صمت دولي مريب. في هذا السياق، يصبح الاعتراف الغربي بدولة فلسطين مثيراً للريبة. فهل يُعقل أن تعترف دول كانت ترفض الاعتراف لعقود، في اللحظة التي تُمحى فيها فلسطين من الجغرافيا؟
ستارمر: «الأمل في حل الدولتين يتلاشى»
في سبتمبر/ أيلول 2025، وخلال الدورة الـ80 للجمعية العامة للأمم المتحدة، انعقد مؤتمر دولي رفيع المستوى برئاسة فرنسا، بهدف إحياء حل الدولتين. المؤتمر شهد إعلان 10 دول غربية اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، من بينها فرنسا، بريطانيا، كندا، أستراليا، البرتغال، بلجيكا، لوكسمبورغ، مالطا، سان مارينو، وأندورا. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وصف الاعتراف بأنه «كسر لدائرة العنف»، مؤكداً أن «لا شيء يبرر استمرار الحرب في غزة». أما رئيس الوزراء البريطاني كر ستارمر، فاعتبر أن «الأمل في حل الدولتين يتلاشى، لكن لا يمكن السماح بانطفائه»، مشدداً على أنها خطوة نحو سلام دائم.
الاعتراف قانونياً وأخلاقياً
يحمل الاعتراف الغربي بدولة فلسطين دلالات عميقة تتجاوز البعد الرمزي، ليغوص في جوهر التفاعلات القانونية والسياسية والأخلاقية التي تحكم العلاقات الدولية. من منظور القانون الدولي، يُعد الاعتراف خطوة سيادية من الدول المعترفة، تمنح الطرف المُعترف به مكانة قانونية أرفع في المحافل الدولية، وتُعزز من شرعيته في التفاوض، والمطالبة بالحقوق، والانضمام إلى المؤسسات الأممية. هذا الاعتراف يُعيد تثبيت فلسطين كفاعل دولي مستقل، ويُمهّد الطريق أمامها لتفعيل أدوات المساءلة القانونية، وملاحقة الانتهاكات التي ارتُكبت بحق شعبها أمام المحاكم الدولية.
أما أخلاقياً، فإن الاعتراف يُجسّد لحظة مراجعة ضمير، ويُعبّر عن إدراك متأخر لحجم المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون، خاصةً في ظل المجاعة، والدمار، والتهجير القسري. إنه إعلان بأن الصمت لم يعد مقبولاً، وأن تجاهل الحقوق الفلسطينية لم يعد ممكناً في عالم بات أكثر شفافية، وأكثر قدرة على فضح الجرائم، وأكثر إلحاحاً في المطالبة بالعدالة. ومع ذلك، يبقى التحدي الأكبر في ترجمة هذا الاعتراف إلى خطوات عملية، تضمن وقف العدوان، ورفع الحصار، ودعم المؤسسات الفلسطينية، وتثبيت الحقوق الوطنية في وجه الاحتلال.
أداة لتصفية القضية تحت غطاء «السلام»
ثمة من يرى أن الاعتراف الغربي ليس دعماً لفلسطين، بل محاولة لإعادة هندسة القضية الفلسطينية وفق شروط جديدة. إقصاء حماس يبدو شرطاً أساسياً، وكأن الاعتراف مشروط بتطهير سياسي مسبق. تدويل القضية عبر تحويلها من قضية تحرر وطني إلى ملف دبلوماسي يُدار في أروقة الأمم المتحدة، يضعف من جوهرها الشعبي. أما تصفية القضية تدريجياً، عبر الاعتراف بدولة دون حدود، ولا سيادة، ولا عودة للاجئين، ولا قدس، فهو ما يجعل الاعتراف أداة لتصفية القضية تحت غطاء «السلام».
كيان الاحتلال.. رفض قاطع وتهديد بالضم
رئيس وزراء الإحتلال الصهيوني بنيامين نتنياهو وصف الاعترافات بأنها «جائزة للإرهاب»، مؤكداً أن «الدولة الفلسطينية لن تُقام غرب نهر الأردن». وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير دعا إلى ضم الضفة الغربية بالكامل، وتفكيك السلطة الفلسطينية. كيان العدو هدد باتخاذ إجراءات ثنائية ضد فرنسا، ووصف المؤتمر بأنه «سيرك سياسي». هذا الرفض الصهيوني يضع المجتمع الدولي أمام تحدٍ كبير: كيف يمكن فرض حل الدولتين في ظل رفض أحد الطرفين الأساسيين؟
أمريكا: الخطوة «أداء سياسي لا يخدم السلام»
الولايات المتحدة، التي كانت تقليدياً الراعي الرئيسي لكيان العدو، وجدت نفسها في عزلة دبلوماسية غير مسبوقة. إدارة ترامب رفضت الاعتراف، ووصفت الخطوة بأنها «أداء سياسي لا يخدم السلام»، مؤكدةً أن «التركيز يجب أن يكون على إطلاق سراح الرهائن، وضمان أمن كيان العدو، وليس على مكافأة حماس». ترامب نفسه عبّر عن رفضه للاعتراف، قائلاً إن «7 أكتوبر / تشرين الثاني كان يوماً دموياً لا يُنسى»، وإنه لا يمكن الحديث عن دولة فلسطينية قبل إطلاق سراح الرهائن. هذا الموقف الأميركي يُضعف من فعالية الاعترافات، لكنه يُظهر أيضاً مدى التباعد بين واشنطن وبقية الدول الغربية.
هل الاعتراف تحول في ميزان القوى؟
الاعتراف الجماعي بدولة فلسطين من دول كانت حليفة تقليدية لكيان العدو، مثل بريطانيا وكندا وأستراليا، يُمثل تحولاً في ميزان القوى الدبلوماسي. يُمثل الاعتراف تحوّلاً في مواقف دول لطالما تبنّت سياسات منحازة لكيان الاحتلال، ويُستخدم اليوم كورقة ضغط لإعادة التوازن إلى الطاولة الدبلوماسية، بعد عقود من اختلالها. كما أنه يُعبّر عن استجابة مباشرة للغضب الشعبي المتصاعد في الغرب، حيث خرجت مظاهرات حاشدة تطالب بوقف المجازر في غزة، وتُدين التواطؤ الرسمي مع آلة القتل الصهيونية. الاعتراف، في هذا السياق، يُوظف أيضاً لتبرئة الذمم، وتقديم صورة أكثر إنسانية للسياسات الغربية، التي باتت تواجه انتقادات داخلية غير مسبوقة.
يبقى الاعتراف مجرد إعلان سياسي
الاعتراف وحده لا يكفي. فالدولة الفلسطينية تحتاج إلى حدود معترف بها، وسيادة فعلية، ووقف الاستيطان، ورفع الحصار عن غزة، وضمان حق العودة، وحماية دولية من الاحتلال. بدون هذه العناصر، يبقى الاعتراف مجرد إعلان سياسي لا يُغيّر شيئاً في الواقع، بل قد يُستخدم لتصفية القضية تحت غطاء «السلام». نائب رئيس الوزراء البريطاني ديفيد لامي قال صراحة إن «الاعتراف لا يعني قيام الدولة بين ليلة وضحاها»، بل هو خطوة رمزية لإبقاء حل الدولتين على قيد الحياة.
محاولة لامتصاص الغضب الشعبي الغربي
الغضب الشعبي في الغرب بلغ ذروته مع انتشار صور الأطفال المجوّعين في غزة، وارتفاع عدد الضحايا المدنيين. مظاهرات ضخمة خرجت في لندن، باريس، تورنتو، وسيدني، تطالب بوقف الحرب، وتتهم الحكومات بالتواطؤ. الاعتراف بدولة فلسطين جاء كاستجابة لهذا الغضب، وكأنه محاولة لامتصاصه، وتقديم «تنازل رمزي» يُهدئ الرأي العام، دون أن يُغيّر شيئاً في السياسات الفعلية.
الاحتلال لم يعد يُمكن تبريره
الاعتراف الغربي بدولة فلسطين لا يُعد فقط خطوة سياسية، بل يحمل في جوهره إدانة ضمنية لاستمرار الاحتلال الصهيوني. فحين تعترف دول كبرى بحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، فإنها بذلك تنزع الشرعية عن سياسات الضم والاستيطان، وتُحمّل الصهاينة مسؤولية تعطيل السلام. هذا الاعتراف، وإن جاء متأخراً، يُعيد تصويب البوصلة الدولية نحو جوهر القضية: شعبٌ محتلٌ يُطالب بحقه في الحرية والسيادة، لا مجرد طرف في نزاع حدودي. إنه اعتراف بأن الاحتلال لم يعد يُمكن تبريره تحت أي ذريعة أمنية أو سياسية، وأن استمرار الصمت الدولي لم يعد خياراً مقبولاً في ظل ما تشهده غزة من إبادة ممنهجة.
الاعتراف كرافعة قانونية للمساءلة
من الناحية القانونية، يُشكّل الاعتراف بدولة فلسطين خطوة تأسيسية نحو مساءلة الاحتلال أمام المحاكم الدولية. فالدولة المعترف بها تملك الحق في اللجوء إلى المؤسسات القضائية الدولية، بما فيها محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، لملاحقة جرائم الحرب والتهجير والاستيطان. هذا الاعتراف يمنح فلسطين صفة قانونية أقوى في مواجهة الانتهاكات، ويُعزز من قدرتها على المطالبة بتعويضات، وفرض عقوبات، ووقف التعامل مع الشركات المتورطة في دعم الاحتلال. إنه ليس مجرد موقف سياسي، بل رافعة قانونية تُعيد للفلسطينيين أدوات الدفاع عن حقوقهم في المحافل الدولية، وتفتح الباب أمام مساءلة دولية حقيقية لمرتكبي الجرائم بحقهم.
خطوة تأسيسية أم لحظة رمزية؟
الاعتراف الغربي بدولة فلسطين، رغم توقيته المريب، يحمل في طياته فرصة. فرصة لإعادة طرح القضية الفلسطينية على الساحة الدولية، وفرصة لتوحيد الصف الفلسطيني، وفرصة للضغط على كيان العدو. لكن هذه الفرصة لن تتحقق إلا إذا تحوّل الاعتراف إلى فعل سياسي حقيقي، يُترجم إلى خطوات عملية: وقف العدوان، رفع الحصار، دعم المؤسسات الفلسطينية، وضمان الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني. أما إذا بقي الاعتراف مجرد إعلان رمزي، فهو لن يكون إلا لتبرئة الذمم، وتغطية على جريمة، وتصفية للقضية تحت شعار «السلام»، ويجب الاعتراف بدولة فلسطينية على كامل تراب فلسطين من البحر إلى النهر وعاصمتها القدس الشريف.