في عالمٍ باتت فيه الرياضة والثقافة منصتين عالميتين للتعبير عن القيم والمواقف، لم تعد الفعاليات الدولية مجرد ساحات تنافس أو عروض فنية، بل تحولت إلى ميادين سياسية تُختبر فيها أخلاقيات الدول ومواقفها من القضايا الإنسانية الكبرى. ومع استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ أكتوبر/ تشرين الثاني 2023، وتزايد التقارير الحقوقية التي تتهم تل أبيب بارتكاب جرائم إبادة جماعية، بدأت أوروبا تشهد تحوّلًا غير مسبوق في موقفها من المشاركة الإسرائيلية في الفعاليات العامة. من سباقات الدراجات إلى بطولات كرة القدم، ومن مهرجانات الموسيقى إلى المعارض الثقافية والسياحية، تتسع دائرة المقاطعة، ويعلو صوت الرفض، في مشهد يعكس تغيرًا عميقًا في المزاج الأوروبي تجاه الاحتلال.
بولونيا وإسبانيا… سباقات تتحول إلى احتجاجات
في سبتمبر/ أيلول 2025، قررت اللجنة المنظمة لسباق «إميليا» للدراجات الهوائية في مدينة بولونيا الإيطالية استبعاد فريق «إسرائيل-بريمير تيك» من المشاركة، بعد ورود معلومات أمنية عن احتمال استهداف نهاية السباق باحتجاجات شعبية مؤيدة لفلسطين. هذا القرار جاء بعد اضطرابات مشابهة في سباق إسبانيا، حيث كان الفريق الإسرائيلي محورًا لغضب المتظاهرين، ما أدى إلى رفع حالة التأهب الأمني.
رئيس اللجنة، أدريانو أميتشي، صرح: «للأسف، في أعقاب الأحداث الأخيرة، اضطررنا إلى استبعاد الفريق من المشاركة هذا العام، حفاظًا على سلامة الرياضيين والجمهور». هذا الاستبعاد لم يكن مجرد إجراء أمني، بل حمل دلالة سياسية واضحة، أوروبا لم تعد تتسامح مع تجاهل الجرائم في غزة، حتى في ساحات الرياضة.
كرة القدم الأوروبية… تصويت تاريخي مرتقب
الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (UEFA) يواجه ضغوطًا متزايدة لتعليق مشاركة الفرق الإسرائيلية في البطولات الدولية. وفقًا لتقارير صحيفة «التايمز» البريطانية، من المتوقع أن يصوّت أغلبية أعضاء اللجنة التنفيذية للاتحاد لصالح تعليق مشاركة كيان العدو الصهيوني، ما قد يمنعها من التأهل لكأس العالم 2026.
الضغط لم يأت فقط من الحكومات، بل من الرياضيين أنفسهم. فقد وقّع عشرات الرياضيين الأوروبيين بيانًا تحت عنوان « Athletes 4 Peace »، دعوا فيه إلى تعليق مشاركة العدو الصهيوني حتى توقف قتل المدنيين في غزة، كما أعلن الاتحاد النرويجي لكرة القدم أنه سيتبرع بعائدات مباراته ضد كيان العدو كمساعدات إنسانية لغزة.
المسارح والمهرجانات… الفن يرفض التطبيع
في باريس، ألغى مسرح «أوديون» عرضًا مشتركًا مع فرقة إسرائيلية، بعد ضغوط من فنانين فرنسيين اعتبروا أن «الفن لا يمكن أن يكون غطاءً لجرائم الحرب». وفي برلين، انسحب عدد من الممثلين من مهرجان المسرح الدولي احتجاجًا على مشاركة وفد إسرائيلي، مؤكدين أن «الضمير الإنساني لا يقبل التطبيع مع القتلة».
وفي مهرجان «أفيينيون» المسرحي الشهير، أُلغيت ندوة بمشاركة كاتب إسرائيلي، بعد أن وقّع أكثر من 300 فنان فرنسي عريضة تطالب بمنع أي تمثيل ثقافي لدولة ترتكب إبادة جماعية.
السينما الأوروبية… مقاطعة مهرجانات وتجميد جوائز
في مهرجان «برليناله»، أُلغيت دعوة لمخرج إسرائيلي بعد احتجاجات من نقابات السينمائيين الألمانية. وفي مهرجان «كان»، رفضت لجنة التحكيم عرض فيلم إسرائيلي، معتبرةً أن «اللحظة السياسية لا تسمح بتقديم صورة تجميلية للاحتلال».
كما أعلنت مؤسسة «غوته» الثقافية الألمانية تعليق تعاونها مع مؤسسات إسرائيلية في المجال السينمائي، مؤكدة أن «الحياد لم يعد خيارًا، والعدالة تقتضي موقفًا واضحًا».
مهرجان «يوروفيجن»… ساحة الغضب الشعبي
في نسخة 2025 من مهرجان «يوروفيجن» التي أُقيمت في بازل السويسرية، واجهت المغنية الصهيونية احتجاجات واسعة، واضطرت إلى تغيير كلمات أغنيتها بعد أن اعتُبرت تلميحًا مباشرًا للهجوم الإسرائيلي على غزة. المتظاهرون رفعوا لافتات كتب عليها «غنوا فيما غزة تحترق»، وأحرقوا العلمين الإسرائيلي والأمريكي، في مشهد يعكس حجم الغضب الشعبي الأوروبي.
رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز صرّح:«ازدواجية المعايير لم تعد مقبولة. كما استُبعدت روسيا بعد غزوها لأوكرانيا، يجب أن يُستبعد كيان العدو بسبب جرائمها في غزة».
ضغط الرعاة والإعلام الثقافي
بدأ عدد من الرعاة الأوروبيين يضغطون على الفعاليات الثقافية لمنع مشاركة العدو الصهيوني، خوفًا من المقاطعة الشعبية. مهرجان «يوروفيجن» تلقى تهديدات من شركات راعية بسحب التمويل، فيما أعلنت شركة «أديداس» انسحابها من رعاية معرض فني في برلين بسبب مشاركة فنانين صهاينة.
الصحافة الثقافية الأوروبية بدأت تتبنى لهجة أكثر جرأة، تنشر مقالات افتتاحية تدعو إلى مقاطعة العدو الصهيوني ثقافيًا، معتبرة أن «الضمير الأوروبي لا يمكن أن يصمت أمام المجازر».
العرائض الشعبية… صوت الجماهير يعلو
في فبراير/ شباط 2024، أطلقت حركة «الديمقراطية في أوروبا 2025» عريضة تطالب بتعليق مشاركة العچو الصهیوني في الرياضة العالمية، وقد جمعت أكثر من 72 ألف توقيع خلال أيام. العريضة وصلت إلى البرلمان الأوروبي، ووقّع عليها نواب من عدة دول، داعين الفيفا واليويفا واللجنة الأولمبية الدولية إلى اتخاذ موقف مشابه لما اتُخذ بحق روسيا.
كاتارينا بيجتلوفيك، إحدى المشاركات في إعداد العريضة، قالت لـوسائل الإعلام: «الهدف هو الضغط على الحكومة الإسرائيلية من الجانب الرياضي أيضًا. عدد الأطفال الفلسطينيين الذين قُتلوا في غزة يفوق بكثير ضحايا الحرب في أوكرانيا، ومع ذلك لم تُتخذ إجراءات مماثلة».
المقارنة مع روسيا… ازدواجية المعايير تحت المجهر
العديد من المثقفين والناشطين الحقوقيين أشاروا إلى التناقض الصارخ في تعامل المؤسسات الثقافية والرياضية مع العدو الصهيوني مقارنة بروسيا. فبينما تم تعليق مشاركة الفرق الروسية بعد أيام من الحرب مع أوکرانیا، لا تزال الفرق الإسرائيلية تشارك في فعاليات رغم مرور شهور على العدوان على غزة، وسقوط آلاف الضحايا المدنيين.
هذا التناقض أثار تساؤلات حول مدى استقلالية المؤسسات الثقافية، ومدى تأثرها بالضغوط السياسية الغربية، خاصةً في ظل العلاقات الوثيقة بين بعض مديري هذه المؤسسات وحكومات داعمة للعدو الصهيوني.
هل تتجه أوروبا نحو مقاطعة شاملة؟
مع تزايد الدعوات الرسمية والشعبية، يبدو أن أوروبا تتجه نحو مقاطعة شاملة للفرق والمؤسسات الإسرائيلية في مختلف المجالات. من المتوقع أن تتخذ اتحادات البث والمهرجانات الكبرى قرارات حاسمة في الأشهر المقبلة، خاصة مع اقتراب الألعاب الأولمبية في باريس، وتصفيات كأس العالم.
هذا التحول لا يعكس فقط موقفًا من العدوان على غزة، بل يعبر عن تغير في النظرة الأوروبية تجاه الاحتلال الإسرائيلي، ويؤسس لمرحلة جديدة من التضامن الثقافي والرياضي مع الشعب الفلسطيني.
أوروبا تكتب فصلًا جديدًا في مقاومة الاحتلال
في زمن تتشابك فيه السياسة مع الفن، وتتحول الفعاليات إلى أدوات مقاومة، يبدو أن أوروبا تكتب فصلًا جديدًا في علاقتها مع الاحتلال الإسرائيلي. من بولونيا، حيث أُقصي الفريق الصهيوني من سباق رياضي، إلى برلين وباريس، حيث أُلغيت عروض فنية ومهرجانات، تتشكل ملامح ضمير عالمي يرفض الصمت، ويطالب بالعدالة.
هذا التحول لا يعكس فقط موقفًا أخلاقيًا، بل يعبر عن نضج سياسي وثقافي، إذ باتت المؤسسات الأوروبية تدرك أن الحياد في وجه الإبادة هو تواطؤ، وأن الصمت أمام القتل هو مشاركة غير مباشرة في الجريمة. إن المقاطعة المتصاعدة للفرق والمؤسسات الإسرائيلية في أوروبا، سواء في الرياضة أو الثقافة أو السياحة، ليست مجرد رد فعل عاطفي، بل هي تعبير عن إرادة جماعية لإعادة تعريف العلاقة مع الاحتلال، ووضع حد للتطبيع الذي طالما غطّى على الانتهاكات.
ومع اتساع رقعة الرفض، وتزايد الأصوات المطالبة بالعدالة، يبدو أن العدو الصهيوني يواجه عزلة غير مسبوقة، لا على مستوى الحكومات فحسب، بل في وجدان الشعوب الأوروبية. وفي ظل هذا الزخم، تبرز أهمية تحويل هذه المقاطعة الرمزية إلى ضغط فعلي على المؤسسات الدولية، من أجل فرض عقوبات حقيقية، ومساءلة قانونية، وإنهاء الإفلات من العقاب.
فالملاعب والمسارح والمعارض لم تعد أماكن للفرجة فقط، بل أصبحت ساحات للضمير، ومنصات للحق، ورسائل واضحة بأن العالم بدأ يستيقظ، وأن فلسطين لم تعد وحدها في مواجهة آلة القتل، بل معها شعوب تنشد الحرية، وتؤمن أن العدالة لا تُجزّأ، وأن الاحتلال لا يمكن أن يُجمّل، مهما غيّر اسمه أو غلّف نفسه بالفن والرياضة.