تحوّل استراتيجي في ميزان القوة الصاروخية

روسيا تتفوق على «باتريوت».. وتعيد تشكيل موازين القوى

ما كشفته " فايننشال تايمز" هو مؤشر على تحول عميق في طبيعة الحروب الحديثة، حيث البرمجيات والمناورات الذكية قد تتفوق على أكثر أنظمة الدفاع تطوراً

 في قلب الصراع المحتدم بين روسيا وأوكرانيا، وبينما تتشابك خيوط السياسة والجغرافيا والتكنولوجيا، برز تحول نوعي في ميدان المعركة، لم يكن في الحسبان. فالصواريخ الروسية، التي لطالما اعتُبرت أدوات تقليدية في ترسانة موسكو، باتت اليوم تتصدر المشهد، لا بسبب كثافتها أو قوتها التدميرية فحسب، بل بسبب قدرتها على تجاوز أكثر أنظمة الدفاع تطوراً في العالم: منظومة «باتريوت» الأميركية.
هذا التحول لم يكن وليد لحظة، بل نتيجة تراكمات تقنية وتكتيكية، بدأت تتبلور في الأشهر الماضية، حين لاحظت كييف، ومعها العواصم الغربية، تراجعاً غير مسبوق في معدلات اعتراض الصواريخ الباليستية الروسية. لم يكن الأمر مجرد خلل في الإمداد أو ضعف في التنسيق، بل كان مؤشراً على أن موسكو قد نجحت في تعديل مسار اللعبة، حرفياً ومجازياً. 
تحول نوعي..من «إسكندر» إلى «كينجال»
التقرير الذي نشرته صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانية كشف عن تحول نوعي في أداء الصواريخ الروسية، خصوصاً «إسكندر-إم» و«كينجال». هذه الصواريخ لم تعد تلتزم بالمسارات الباليستية التقليدية، بل باتت تنفذ مناورات حادة، تغير اتجاهها فجأة، وتُطلق مضلّلات حرارية ورادارية تُربك أنظمة الرصد الغربية. هذا التطوير لم يكن عشوائياً، بل جاء نتيجة تحليل دقيق لبيانات الاعتراض السابقة، ما يُشبه إلى حد كبير منهجية التعلم الآلي، حيث تُستخدم التجارب الفاشلة لتحسين الأداء في الجولات التالية.
«إسكندر-إم»، الذي يُطلق من منصات أرضية ويصل مداه إلى 500 كيلومتر، بات يتبع مساراً نموذجياً قبل أن ينحرف فجأة في هبوط حاد، ما يُفشل محاولات الاعتراض. أما «كينجال»، الذي يُطلق من الجو ويصل مداه إلى 480 كيلومتراً، فقد أصبح أكثر قدرة على المناورة، وأكثر سرعة، ما يجعله شبه مستحيل الاعتراض. هذه الصواريخ لا تطير فحسب، بل تُفكر، تُراوغ، وتُفاجئ.
مأزق «باتريوت».. التكنولوجيا لا تكفي وحدها
منظومة «باتريوت» (Patriot)  نظام دفاع جوي أميركي متعدد المهام، صُمم لاعتراض الصواريخ الباليستية والطائرات المعادية. دخلت الخدمة منذ الثمانينات، وجرى تطويرها على مراحل لتصبح أحد أكثر الأنظمة الدفاعية تطوراً في العالم. فهي تعتمد على رادارات متقدمة لرصد التهديدات، وتستخدم صواريخ اعتراضية دقيقة وقادرة على التعامل مع أهداف متعددة في وقتٍ واحد. هذه الصواريخ التي صُممت لاعتراض الصواريخ عبر توقع مسارها، باتت عاجزة أمام صواريخ تغير مسارها في اللحظة الأخيرة، وتُطلق مضلّلات تُربك الرادارات. هذا العجز لا يُعزى فقط إلى طبيعة التهديد، بل أيضاً إلى تأخر التحديثات البرمجية، وضعف القدرة على التكيّف مع التهديدات الجديدة.
كييف، التي تعتمد بشكل شبه كامل على الدعم الأميركي في مجال الدفاع الجوي، بدأت تشارك بيانات تشغيل «باتريوت» مع البنتاغون، وشركات التصنيع الأميركية مثل «رايثيون» و«لوكهيد مارتن»، في محاولة لتحديث المنظومة ومواكبة التعديلات الروسية. لكن أحد المسؤولين الغربيين أقرّ بأن هذه التحسينات غالباً ما تأتي متأخرة، وأن موسكو تتحرك بسرعة، وتُطوّر تكتيكاتها بوتيرة تفوق قدرة الغرب على الاستجابة.
كييف في مرمى النيران.. السماء لم تعد آمنة
النتائج الميدانية لهذا التطوير كانت واضحة وصادمة. خلال الصيف، تعرضت مصانع الطائرات المسيّرة في كييف ومحيطها لضربات دقيقة، بينها منشآت لإنتاج طائرات «بيرقدار» التركية، ومقرات شركات تصميم مكونات المسيّرات، وحتى مكاتب دبلوماسية مثل وفد الاتحاد الأوروبي والمجلس الثقافي البريطاني. هذه الضربات لم تُعترض، ولم تُوقف، بل وصلت إلى أهدافها بدقة، ما يُظهر أن السماء الأوكرانية باتت مكشوفة أمام الصواريخ الروسية.
البيانات الرسمية كانت أكثر وضوحاً من أي تحليل. ففي أغسطس/ آب، كانت نسبة اعتراض الصواريخ الباليستية تصل إلى 37%. لكن في سبتمبر/ أيلول، تراجعت إلى 6% فقط. هذا التراجع الحاد لا يُعزى فقط إلى تطور الصواريخ الروسية، بل أيضاً إلى بطء تسليم صواريخ الاعتراض من الولايات المتحدة، ومحدودية عدد بطاريات «باتريوت» لدى أوكرانيا، وصعوبة تشغيل المنظومة بشكل مستمر بسبب نقص الذخيرة.
البرمجيات الروسية..ذكاء يتغذى على الفشل
ما يُثير الاهتمام في هذا التحول ليس فقط الأداء الميداني، بل المنهجية التي اتبعتها روسيا في تطوير صواريخها. فبحسب الباحث «فابيان هوفمان» من جامعة أوسلو، فإن المصنّعين عادة ما يستفيدون من بيانات الاعتراض لتحسين الأداء، ويبدو أن موسكو تطبّق هذا النهج بنجاح. هذا يعني أن كل صاروخ يُطلق، وكل محاولة اعتراض تُفشل، تُغذي قاعدة بيانات تُستخدم لاحقاً لتطوير صواريخ أكثر ذكاءً، وأكثر قدرة على تجاوز الدفاعات.
هذا النهج يُشبه إلى حد كبير التعلم الآلي، إذ تُستخدم البيانات لتحسين الأداء بشكلٍ مستمر، ما يجعل كل جولة قتال أكثر تعقيداً من سابقتها. وهنا، لا يعود التفوق مرهوناً بعدد الصواريخ أو قوتها التدميرية، بل بقدرتها على التكيّف، والتعلم، والمراوغة.
البُعد الجيوسياسي.. من كييف إلى بكين
التحقيقات تُشير إلى أن بعض مكونات الصواريخ الروسية قد تكون غربية الصنع، وصلت عبر أطراف ثالثة، منها الصين. نائب وزير الخارجية الأوكراني، سيرغي كيسليتسيا، شدد على ضرورة وقف هذا التدفق، معتبراً أن استمرار وصول هذه المكونات يُعزز قدرة روسيا على تطوير صواريخها، ويُضعف قدرة أوكرانيا على الدفاع.
هذا البُعد يُعيد تشكيل موازين القوى، ويُعزز مكانة روسيا في مواجهة حلف الناتو، ويُضعف قدرة الغرب على فرض إرادته العسكرية. فالتفوق الروسي في مجال الصواريخ لا يُهدد أوكرانيا فحسب، بل يُعيد تعريف معنى الردع، ويُجبر الخصوم على إعادة التفكير في استراتيجياتهم الدفاعية.
مستقبل الردع.. سباق لا ينتهي
في ظل هذا التحول، يمكن تصور عدة سيناريوهات. أولها أن الولايات المتحدة قد تلجأ إلى تطوير أنظمة أكثر ذكاءً، تعتمد على الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، لمواكبة المناورات الروسية. ثانيها أن الغرب قد يُكثف جهوده الاستخبارية، لتزويد كييف بمعلومات دقيقة تُساعدها على ضرب العمق الروسي، وتعويض ضعف الدفاعات الجوية. وثالثها أن الدول الغربية قد تُشدد الرقابة على سلاسل التوريد التقنية، لمنع وصول المكونات الحساسة إلى روسيا عبر أطراف ثالثة.
لكن كل هذه السيناريوهات تبقى رهينة الزمن، والقدرة على الاستجابة السريعة. فالحروب الحديثة لا تُنتظر، ولا تُدار من خلف المكاتب، بل تُحسم في الميدان، حيث السرعة، والذكاء، والقدرة على التكيّف، هي العوامل الحاسمة.
حين يُعيد الصاروخ رسم الخريطة
ما كشفته «فايننشال تايمز» ليس مجرد خبر عسكري، بل هو مؤشر على تحول عميق في طبيعة الحروب الحديثة، حيث البرمجيات والمناورات الذكية قد تتفوق على أكثر أنظمة الدفاع تطوراً. في هذا السباق بين السيف والدرع، يبدو أن روسيا قد كسبت جولة مهمة، لكن المعركة لا تزال مفتوحة، والتفوق فيها لن يكون إلا لمن يملك القدرة على الابتكار والاستجابة السريعة.
الصواريخ الروسية لم تعد مجرد أدوات تدمير، بل أصبحت أدوات تفوق استراتيجي، تُعيد رسم خرائط القوة، وتُجبر الخصوم على إعادة التفكير. وفي هذا السياق، لا يعود السؤال عن عدد الصواريخ أو قوتها، بل عن قدرتها على التفكير، والتعلّم، والمراوغة. وهذا ما يجعل المعركة أكثر تعقيداً، وأكثر خطورة، وأكثر إثارة للاهتمام.
المصدر: الوفاق/ خاص