الانقسامات تؤجّل الحسم ...

 قمة كوبنهاغن تكشف العجز البنيوي الأوروبي والهيمنة الأمريكية

 قمة كوبنهاغن لم تكن مجرد اجتماع سياسي، بل لحظة كاشفة لأزمة أوروبا العميقة؛ انقسامات داخلية، غياب قيادة موحدة، وتردد في مواجهة التحديات الأمنية والمالية

في قاعة فخمة في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن، اجتمع قادة الاتحاد الأوروبي والمجموعة السياسية الأوروبية في مشهد بدا للوهلة الأولى وكأنه استعراض للوحدة والتصميم. صور تذكارية، بيانات ختامية، وابتسامات دبلوماسية. لكن خلف الأبواب المغلقة، كانت الحقيقة أكثر تعقيداً: انقسامات حادة، تردد سياسي، وعجز مؤسسي عن اتخاذ قرارات مصيرية في لحظة تاريخية حرجة. قمة كوبنهاغن لم تكن محطة للحسم، بل مرآة تعكس أزمة أوروبا العميقة في مواجهة تحديات الحرب، الأمن، والاقتصاد، وسط غياب واضح لدور قيادي موحد، وتنامي الهيمنة الأمريكية على القرار الغربي.

 

أوكرانيا في قلب العاصفة

 

حضر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي القمة حاملاً معه قائمة طويلة من الاحتياجات العاجلة: تعزيز الدفاع الجوي، تمويل إنتاج الطائرات المسيّرة، وتسريع محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ورغم الترحيب الحار من بعض القادة، فإن ترجمة هذا الدعم إلى إجراءات مالية ملموسة اصطدمت بجدار من الانقسامات القانونية والسياسية. المقترح الأكثر طموحاً قرض بقيمة 140 مليار يورو ممول من أرباح الأصول الروسية المجمدة ، لم يلقَ الإجماع المطلوب، بل واجه معارضة شرسة من بلجيكا ولوكسمبورغ، لأسباب تتعلق بالمخاطر القانونية والمالية.

 

الأصول الروسية المجمدة تثير جدلاً

 

منذ بداية الحرب، جمّدت الدول الغربية نحو 300 مليار دولار من الأصول السيادية الروسية، معظمها في أوروبا، وتحديداً في مؤسسة «يوروكلير» البلجيكية. هذه الأموال تدرّ مليارات من الأرباح سنوياً، ما دفع المفوضية الأوروبية إلى اقتراح استخدامها كضمان لقرض ضخم لأوكرانيا. لكن بلجيكا، التي تستفيد من ضرائب هذه الأرباح، رفضت الخطة خشية التعرض لدعاوى قضائية من موسكو، أو فقدان الثقة الدولية في النظام المالي الأوروبي.

 

المفارقة أن الخطة لا تتضمن مصادرة الأصول، بل استخدام السيولة الناتجة عنها، ما يجعلها قانونياً «رمادية»، ويثير جدلاً واسعاً حول مدى احترام أوروبا للقانون الدولي، خاصةً في ظل غياب إجماع داخلي، وتردد دول مثل فرنسا وألمانيا في المضي قدماً دون ضمانات واضحة.

 

حلم أمني يصطدم بالسيادة الوطنية

 

في ظل تصاعد التهديدات الأمنية، من اختراقات الطائرات الروسية المسيّرة إلى إغلاق مطارات أوروبية، طرحت المفوضية الأوروبية مشروع «جدار الطائرات المسيّرة» كحل تكنولوجي لمواجهة هذه المخاطر. المشروع يهدف إلى إنشاء منظومة دفاعية قادرة على الكشف والاعتراض والتحييد، لكنه واجه تشكيكاً من قوى عسكرية رئيسية مثل فرنسا وألمانيا، التي رفضت فكرة إدارة المفوضية لمشروع دفاعي بهذا الحجم، معتبرة أن الأمر يمسّ السيادة الوطنية والسيطرة على الصناعات الدفاعية.

 

دول جنوب أوروبا، من جهتها، طالبت بتوسيع مفهوم الجدار ليشمل مراقبة الهجرة، ما كشف عن تباين في الأولويات بين شمال القارة وجنوبها، وأعاد طرح سؤال قديم: هل يمكن لأوروبا أن تتحدث بصوت واحد في قضايا الأمن؟

 

الإجماع المفقود

 

اقترح رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا التخلي عن شرط الإجماع لتسريع انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد، لكن الاقتراح قوبل برفض فوري، خاصةً من رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان، الذي عبّر عن معارضته الصاخبة، مدعوماً بتحفظات أقل علنية من دول مثل فرنسا وهولندا واليونان. القلق المشترك كان من دمج اقتصاد مدمّر بالحرب، ومنح أوكرانيا نفوذاً كبيراً داخل مؤسسات الاتحاد.

 

المشهد بلغ ذروته في مشادة علنية بين أوربان ورئيس الوزراء البولندي دونالد توسك، الذي اتهم أوربان بالوقوف في صف روسيا، ما يعكس حجم التوترات الداخلية، ويطرح سؤالاً وجودياً: هل الاتحاد الأوروبي قادر على التوسع في ظل هذه الانقسامات؟

 

دعم أوكرانيا بين المبادئ والمصالح

 

في خضم النقاشات المتشعبة، برز سؤال أخلاقي جوهري: هل دعم أوكرانيا ينبع من التزام أوروبي بالمبادئ الديمقراطية، أم أنه مجرد أداة جيوسياسية لاحتواء روسيا؟ هذا السؤال لم يُطرح صراحة في القمة، لكنه كان حاضراً في خلفية كل نقاش مالي أو أمني. فبينما تؤكد المفوضية الأوروبية أن «روسيا يجب أن تُحاسب»، فإن تردد بعض الدول في تمويل أوكرانيا من أرباح الأصول المجمدة يعكس حسابات مصلحية بحتة، تتعلق بالاستقرار المالي، والعلاقات الدولية، وحتى مصالح الشركات الكبرى.

 

أوروبا بين التبعية الأطلسية والطموح الاستقلالي

 

منذ نهاية الحرب الباردة، ظل الاتحاد الأوروبي يتحرك ضمن مظلة الحلف الأطلسي، حيث تلعب الولايات المتحدة دور الضامن الأمني الأول. لكن الحرب في أوكرانيا، وتراجع الالتزام الأمريكي في عهد ترامب، أعادا طرح سؤال جوهري: هل تستطيع أوروبا بناء منظومة أمنية مستقلة؟ رغم الطموحات المتكررة في باريس وبرلين حول «الاستقلال الاستراتيجي»، فإن الواقع يكشف هشاشة البنية الدفاعية الأوروبية، واعتمادها شبه الكامل على التكنولوجيا والتمويل الأمريكيين. هذا التناقض بين الطموح والتبعية يضع الاتحاد أمام خيارين: إما إعادة تعريف العلاقة مع واشنطن على أساس الشراكة المتكافئة، أو الاستمرار في دور التابع، ما يُضعف قدرته على التأثير في القضايا الدولية الكبرى.

 

أزمة قيادة حقيقية

 

الصراع بين المفوضية الأوروبية وعواصم الدول الاتحاد حول من يقود المشاريع الدفاعية والمالية يكشف عن أزمة قيادة حقيقية. بروكسيل تطرح مشاريع طموحة، لكن التنفيذ يتطلب موافقة الدول الأعضاء، التي تضع مصالحها الوطنية فوق الاعتبارات الجماعية. هذا التناقض البنيوي يجعل من الاتحاد الأوروبي كياناً عاجزاً عن اتخاذ قرارات حاسمة، ويضعف قدرته على الاستجابة للأزمات.

 

 انفصال بين النخب السياسية والقاعدة الشعبية

 

في موازاة التحديات الخارجية، يواجه الاتحاد الأوروبي أزمة شرعية داخلية متفاقمة. فالمواطن الأوروبي، الذي يعاني من تدهور الخدمات العامة وارتفاع تكاليف المعيشة، بات يرى في مؤسسات الاتحاد كياناً بيروقراطياً بعيداً عن همومه اليومية. القرارات تُتخذ في بروكسيل، لكن آثارها تُلمس في القرى والمدن دون مشاركة فعلية من الشعوب. هذا الانفصال بين النخب السياسية والقاعدة الشعبية يُغذي صعود الحركات الشعبوية، ويُضعف التماسك الداخلي. وإذا لم يُعالج هذا الخلل البنيوي، فإن أي مشروع توسعي أو دفاعي سيبقى هشاً، لأن الشرعية لا تُبنى فقط على المصالح، بل على الثقة والمشاركة الديمقراطية الفعلية.

 

النتائج في الأسابيع القادمة

 

مع إعلان رئيس المجلس الأوروبي تأجيل اتخاذ القرارات الكبرى إلى القمة المقبلة، تتجه الأنظار إلى الأسابيع القادمة باعتبارها مفصلية في تحديد مستقبل الاتحاد الاوروبي. فإما أن تنجح أوروبا في تجاوز خلافاتها، وتُقرّ آليات تمويل مبتكرة، وتُطلق مشاريع دفاعية مشتركة، وتُعيد ترتيب أولوياتها الاقتصادية والاجتماعية، أو أن تستمر في دوامة التأجيل والتردد، ما يُضعف موقعها الدولي، ويُعمّق تبعيتها للولايات المتحدة.

 

أوروبا بين الحلم والواقع

 

قمة كوبنهاغن لم تكن مجرد اجتماع سياسي، بل لحظة كاشفة لأزمة أوروبا العميقة: انقسامات داخلية، غياب قيادة موحدة، وتردد في مواجهة التحديات الأمنية والمالية. في ظل تراجع الدور الأمريكي، وتفاقم الحرب في أوكرانيا، تحتاج أوروبا إلى إعادة تعريف دورها، وتجاوز خلافاتها البنيوية، إذا أرادت أن تكون فاعلاً حقيقياً في النظام الدولي، لا مجرد تابع في ظل واشنطن.

 

لكن السؤال يبقى: هل تمتلك أوروبا الشجاعة السياسية، والمرونة القانونية، والإرادة الجماعية، لترجمة طموحاتها إلى أفعال؟ أم أن قمة كوبنهاغن ستكون مجرد محطة أخرى في مسار طويل من التردد والعجز؟

 

في هذا السياق، تبدو أوروبا وكأنها تقف عند مفترق طرق تاريخي: إما أن تتجاوز انقساماتها الداخلية وتعيد بناء مشروعها السياسي على أسس أكثر واقعية وجرأة، أو أن تستمر في الدور الثانوي ضمن النظام الدولي، حيث تُدار الملفات الكبرى من واشنطن، وتُنفذ في بروكسيل، وتُناقش في العواصم دون حسم. إن اللحظة الراهنة لا تحتمل التردد، ولا تسمح بمزيد من التأجيل، فالعالم لا ينتظر، والتاريخ لا يرحم من يتخلف عن ركبه.

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص