في زمنٍ تتراجع فيه المبادئ أمام المصالح،انطلقت من ميناء برشلونة في سبتمبر/أیلول 2025 أكثر من أربعين سفينة، تحمل على متنها مئات الناشطين من أكثر من أربعين دولة، متحدين في هدف واحد؛ كسر الحصار الصهيوني المفروض على قطاع غزة منذ أكثر من ستة عشر عامًا.
لم يكن «أسطول الصمود العالمي» مجرد قافلة بحرية، بل كان إعلانًا أخلاقيًا بأن العالم لم يفقد ضميره بعد، وأن التضامن الإنساني قادر على تجاوز الحدود، واللغات، والانتماءات. لكن ما واجهته هذه السفن لم يكن سوى عنف الاحتلال الصهيوني، ورفضه لأي فعل إنساني لا يخضع لرقابته. في المياه الدولية، بعيدًا عن أي تهديد أمني، اعترضت البحرية الصهيونية الأسطول، واعتقلت أكثر من 400 ناشط، بينهم برلمانيون، حقوقيون، أطباء، فنانون، وناشطون بيئيون. ما تلا ذلك من تعذيب، إذلال، واحتجاز تعسفي، لم يكن سوى مرآة تعكس طبيعة الاحتلال، وتكشف هشاشة المواقف الغربية التي بدأت تتصدع تحت ضغط شعوبها.
الاقتحام.. من البحر إلى الزنزانة
في الثاني من أكتوبر/ تشرين الثاني، وبينما كانت سفن الأسطول تقترب من المياه الإقليمية الفلسطينية، هاجمتها البحرية الصهيونية باستخدام الطائرات المسيّرة، والقنابل الصوتية، والغاز المسيل للدموع. لم يكن الهجوم مجرد اعتراض، بل كان عملية عسكرية كاملة، انتهت باقتحام السفن وسحب النشطاء أرضًا، وتقييدهم، ونقلهم إلى سجن كتسيعوت في صحراء النقب.
الناشط الإسباني رافاييل بوريغو، الذي كان من بين أول العائدين إلى مدريد، وصف ما جرى قائلاً:«ضربونا، جرّونا على الأرض، عصبوا أعيننا، وقيّدوا أقدامنا وأيدينا. تكررت الإيذاءات الجسدية والنفسية طوال هذه الأيام». لم يكن وحده في ذلك، بل تكررت الشهادات من نشطاء فرنسيين، ألمان، أتراك، وأرجنتينيين، جميعهم أكدوا أن ما تعرضوا له كان ممنهجًا.
كما اتهمت مجموعة «أمواج الحرية» السلطات الصهيونية بسوء معاملة نشطائها السويسريين بعد اعتراض «أسطول الصمود» المتجه إلى غزة، مشيرةً إلى ظروف احتجاز مهينة في سجن النقب، وقد عاد 9 منهم إلى سويسرا، بينهم رئيس بلدية جنيف السابق، فيما تمترحيل عشرات النشطاء الآخرين إلى دول أوروبية.
غريتا تونبرغ.. الناشطة الأكثر رمزية
ربما كانت مشاركة الناشطة السويدية غريتا تونبرغ هي الأكثر رمزية في هذا الأسطول. فالشابة التي هزّت العالم بخطاباتها البيئية، اختارت أن تكون صوتًا لأطفال غزة، وأن تبحر معهم نحو الأمل. لكن كيان العدو لم يميز بين ناشط بيئي أو سياسي، بل احتجز غريتا في زنزانة مليئة ببقّ الفراش، ما تسبب لها بطفح جلدي وحكة شديدة.عانت من الجفاف بسبب عدم توفير الماء، وتعرّضت للشتائم والسخرية من الجنود، الذين وصفوها بأنها «ناشطة مزعجة» و«مخربة». ورغم محاولات الضغط، رفضت غريتا التوقيع على وثيقة «إسرائيلية» تُقر بدخولها «بشكلٍ غير قانوني»، وأصرت على أن وجودها كان إنسانيًا وسلميًا.
فرنسا.. أزمة سياسية داخلية تتفجر
في باريس، لم يكن وقع الحدث أقل صدمة. أربعة نواب من حزب «فرنسا الأبية» اليساري، بينهم ريما حسن وفرنسوا بيكمال، اعتُقلوا ضمن الأسطول، وبدأوا إضرابًا عن الطعام داخل المعتقل الصهيوني.
النائبة مانون أوبري قالت في تصريح إذاعي:« لا أخبار جديدة عن النواب المعتقلين سوى كلام قليل مع محاميهم والقنصل الفرنسي. ظروف احتجازهم صعبة، إذ هناك أكثر من عشرة أشخاص في الزنزانة، وهم يعانون من نقص الماء».
رئيس الحزب، جان لوك ميلانشون، لم يتردد في مهاجمة الحكومة الفرنسية، وكتب عبر منصة «أكس»: «مواطنونا ما زالوا في السجن، المجالس تتجاهل أعضاءها، القيم التي يرفعها من يحكموننا ليست سوى نفاق».
في المقابل، حاولت الحكومة التخفيف من حدة الأزمة، إذ أكدت النائبة ناتالي لوازو أن فرنسا «تمارس الحماية القنصلية»، لكنها لمّحت إلى أن بعض المشاركين ربما يسعون إلى «الترويج للذات»، في تصريح أثار موجة من الغضب الشعبي.
إسبانيا.. من التضامن إلى المحاسبة القانونية
إسبانيا، التي انطلق منها الأسطول، لم تكتفِ بالتنديد، بل بدأت خطوات قانونية فعلية. وزير الداخلية فرناندو غراندي مارلاسكا أعلن أن بلاده ستتقدم بشكوى رسمية إلى المحكمة الجنائية الدولية، واعتبر أن ما جرى «حرمان من الحرية وفق القانونين المحلي والدولي».
كما استدعت الحكومة القائمة بأعمال السفارة الصهيونية في مدريد، وفتحت النيابة العامة تحقيقًا داخليًا في الانتهاكات التي تعرّض لها المواطنون الإسبان.
وزيرة الصحة مونيكا غارسيا، وزعيمة حزب بوديموس أيوني بيلارا، كانتا في استقبال النشطاء العائدين، في مشهد يعكس الدعم السياسي والشعبي الواسع، ويؤكد أن القضية لم تعد محصورة في غزة، بل باتت تمس كرامة الأوروبيين أنفسهم.
البرازيل.. صوت يتحدى الاحتلال الصهيوني
في خطوة غير مسبوقة من أميركا اللاتينية، أعلن الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا أن كيان العدو الصهيوني «انتهك القانون الدولي» باعتراضه سفن الأسطول في المياه الدولية.
وقال في بيان رسمي:« لقد وجّهت وزارة الخارجية لتقديم كل المساعدة اللازمة لضمان سلامة مواطنينا وتمكينهم من العودة سالمين».
هذا التصريح لم يكن مجرد تضامن، بل إعلان سياسي واضح بأن البرازيل لن تقف متفرجة أمام انتهاك حقوق مواطنيها، وأن الاحتلال الصهيوني لم يعد فوق القانون.
وثائق تعزز مصداقية الشهادات الدولية
رغم التغطية المكثفة في إسبانيا وفرنسا، تجاهلت بعض وسائل الإعلام الغربية الكبرى الحدث، أو قدمته من زاوية أمنية، ما أثار انتقادات واسعة من منظمات حقوقية. ونُشر تقرير يستند إلى وثائق رسمية تؤكد أن النشطاء تعرضوا للعنف والشتائم أثناء احتجازهم، ما يعزز مصداقية الشهادات الدولية، ويضع حكومة الاحتلال في موقف دفاعي أمام الرأي العام العالمي.
كيان العدو في عزلة متزايدة
رد الفعل الصهيوني العنيف تجاه الأسطول، بما في ذلك استخدام الطائرات المسيّرة والاحتجاز الجماعي، لم ينجح في ردع التضامن العالمي، بل أدى إلى نتائج عكسية. فبدلًا من ترهيب النشطاء، ساهمت هذه الإجراءات في تعميق العزلة السياسية لكيان العدو، ودفعت دولًا مثل إسبانيا والبرازيل إلى اتخاذ خطوات قانونية غير مسبوقة.
كما أن تصاعد الدعوات داخل البرلمان الأوروبي لفرض عقوبات على كيان العدو، وفتح تحقيق دولي في انتهاكاتها، يشير إلى تحوّل نوعي في الموقف الغربي، قد تكون له انعكاسات استراتيجية على المدى الطويل.
الأسطول.. أداة ضغط سياسي وقانوني
ما ميّز أسطول الصمود العالمي لم يكن فقط جرأته في تحدي الحصار، بل قدرته على تحويل الفعل الفردي إلى تحوّل سياسي. النشطاء الذين خاطروا بحياتهم في عرض البحر، لم يكونوا مجرد متضامنين، بل أصبحوا محفّزين لحراك دبلوماسي داخل بلدانهم. في إسبانيا، تحوّلت شهادات العائدين إلى مادة برلمانية، وفي فرنسا، أصبح إضراب النواب عن الطعام قضية رأي عام، وفي البرازيل، تحوّل تصريح الرئيس إلى عنوان رئيسي في الصحف الدولية.
هذا التحوّل لم يكن متوقعًا، لكنه يعكس أن الفعل الإنساني، حين يكون نزيهًا وجريئًا، قادر على زعزعة الحسابات السياسية، وفرض نفسه على الأجندة الرسمية. لقد أعاد الأسطول تعريف التضامن، ليس كفعل عاطفي، بل كأداة ضغط سياسي وقانوني.
البحر لم يكن النهاية
أسطول الصمود العالمي لم يصل إلى غزة، لكنه وصل إلى قلب أوروبا، وأعاد فتح ملف الحصار أمام العالم. لقد كشف أن كيان العدو لا يكتفي بفرض الحصار، بل يلاحق من يحاول كسره، حتى لو كانوا نوابًا أوروبيين أو ناشطين بيئيين. لكن في المقابل، كشف أيضًا أن الشعوب الغربية، حين تتحرك، قادرة على فرض التغيير، وأن الحكومات، مهما ترددت، لا تستطيع تجاهل صوت الضمير طويلًا.
الأسطول لم يكن مجرد قافلة، بل كان اختبارًا أخلاقيًا للعالم. وبينما حاول كيان العدو أن يخنق الرسالة، ساهم في نشرها. وبينما أراد أن يعاقب النشطاء، دفع حكوماتهم إلى حمايتهم. وبينما أراد أن يُسكتهم، جعلهم يتحدثون باسم الإنسانية كلها.