المعادن النادرة في قلب المواجهة..

 واشنطن وبكين.. هل تعود الحرب التجارية؟

 أظهر الصراع الصيني الأمريكي على أن المعادن النادرة لم تعد مجرد أدوات إنتاج، بل أصبحت أسلحة تفاوض، وأوراق ضغط، ومفاتيح للنفوذ الجيوسياسي

 

في لحظة بدت فيها العلاقات الأميركية الصينية وكأنها تتجه نحو التهدئة بعد سنوات من التوترات التجارية والتكنولوجية، فجّر دونالد ترامب مفاجأة سياسية واقتصادية بإعلانه إلغاء لقائه المرتقب مع نظيره الصيني شي جينبينغ، وتهديده بفرض «زيادة هائلة» في الرسوم الجمركية على الواردات الصينية. جاء ذلك بعد إعلان بكين فرض ضوابط إضافية على تصدير المعادن النادرة، وهي عناصر حيوية تدخل في صناعات التكنولوجيا والدفاع والسيارات.

 

هذا التصعيد يعيد إلى الواجهة واحدة من أعقد الملفات في العلاقات الدولية المعاصرة، الصراع على الموارد الاستراتيجية، وتحديدًا المعادن النادرة التي تسيطر الصين على أكثر من 80% من إنتاجها العالمي. فهل نحن أمام عودة للحرب التجارية؟ أم أن ما يجري هو إعادة تموضع في لعبة النفوذ الاقتصادي العالمي، إذ لم تعد الرسوم الجمركية مجرد أدوات تفاوض، بل تحولت إلى رموز في معركة السيطرة على مفاتيح التكنولوجيا؟

 

المعادن النادرة.. جوهر الصراع الجديد

 

المعادن النادرة ليست مجرد عناصر كيميائية، بل هي شريان حيوي لصناعات القرن الحادي والعشرين. تدخل هذه المعادن في صناعة الشرائح الإلكترونية، والمغناطيسات القوية، والبطاريات، وأجهزة الليزر، وحتى أنظمة التوجيه في الصواريخ والطائرات. الصين، التي تمتلك احتياطيات ضخمة وتكنولوجيا متقدمة في استخراج هذه المعادن، تهيمن على السوق العالمي، وتستخدم هذه الهيمنة كورقة ضغط في علاقاتها التجارية والدبلوماسية.

 

في أكتوبر/ تشرين الأول 2025، أعلنت بكين فرض قيود إضافية على تصدير هذه المعادن، بما في ذلك اشتراطات جديدة للحصول على تراخيص التصدير، وهو ما اعتبرته واشنطن خطوة «عدائية»، تهدف إلى «احتجاز العالم»، وفق تعبير ترامب. هذا القرار أثار قلقًا عالميًا، خاصةً في الدول الصناعية التي تعتمد على هذه الموارد في سلاسل إنتاجها، من السيارات الكهربائية إلى أنظمة الدفاع المتقدمة.

 

ترامب، الذي لطالما استخدم الرسوم الجمركية كسلاح تفاوضي منذ ولايته الأولى، ردّ سريعًا بإعلانه دراسة فرض رسوم تصل إلى 100% على الواردات الصينية، إضافةً إلى إجراءات مالية أخرى تشمل قيودًا على البرمجيات والتقنيات الصينية، في محاولة لردع بكين وإعادة ضبط ميزان القوة الاقتصادية.

 

إلغاء لقاء ترامب وشي.. دلالات تتجاوز التجارة

 

كان من المقرر أن يلتقي الرئيسان الأميركي والصيني في قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (APEC) في كوريا الجنوبية. اللقاء كان يُنظر إليه على أنه فرصة لإعادة بناء الثقة بين القوتين الاقتصاديتين الأكبر في العالم، خاصةً بعد أشهر من التهدئة النسبية في الحرب التجارية التي بدأت منذ عام 2018.

 

لكن إعلان ترامب إلغاء اللقاء، واعتباره أن «لا مبرر له»، يحمل دلالات تتجاوز الخلاف على المعادن النادرة. فالإلغاء يعكس انهيارًا في مسار التفاوض، ويشير إلى أن واشنطن لم تعد ترى فائدة في الحوار مع بكين في ظل ما تعتبره «تصعيدًا غير مبرر».

 

سياسيًا، يُظهر القرار رغبة ترامب في استعراض الحزم أمام ناخبيه، خاصةً في ظل اقتراب الانتخابات النصفية، إذ يسعى إلى تعزيز صورته كرئيس لا يتهاون مع الخصوم الدوليين. اقتصاديًا، يفتح الباب أمام موجة جديدة من التوترات التي قد تؤثر على الأسواق العالمية، كما حدث بالفعل بانخفاض مؤشر S&P 500 بنسبة 2% فور إعلان التهديدات الجمركية.

 

ضوابط استراتيجية أم مناورة تفاوضية؟

 

من جانبها، لم تصدر بكين ردًا مباشرًا على تصريحات ترامب، لكنها أكدت أن القيود الجديدة على المعادن النادرة تهدف إلى «تنظيم السوق وضمان الاستخدام المسؤول للموارد». إلا أن توقيت القرار، قبل القمة المرتقبة، يوحي بأنه يحمل رسالة سياسية واضحة، مفادها أن الصين لن تتراجع عن حماية مصالحها الاستراتيجية، حتى لو أدى ذلك إلى تصعيد مع واشنطن.

 

الصين، التي لطالما اتهمت الولايات المتحدة باستخدام الرسوم الجمركية كسلاح سياسي، ترى في المعادن النادرة ورقة ضغط مشروعة، خاصةً في ظل تصاعد التوترات في ملفات أخرى مثل تايوان، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا المتقدمة. فبكين تدرك أن هذه الموارد تمنحها تفوقًا نوعيًا في معركة السيطرة على مستقبل الصناعات العالمية.

 

بعض المحللين يرون أن بكين تحاول اختبار حدود الرد الأميركي، بينما يرى آخرون أن القرار جزء من استراتيجية أوسع لإعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية، وتقليل الاعتماد على الأسواق الغربية، في إطار ما يُعرف بسياسة «الانفصال الاستراتيجي».

 

الأسواق في حالة ترقب

 

التهديدات الجمركية الجديدة، إلى جانب القيود الصينية، تضع الاقتصاد العالمي أمام سيناريوهات معقدة. فالمعادن النادرة تدخل في صناعات حساسة، وأي اضطراب في تدفقها يؤثر على إنتاج السيارات الكهربائية، والهواتف الذكية، والمعدات الطبية، وحتى الصناعات الدفاعية.

 

الشركات الأميركية، التي تعتمد على هذه المعادن، بدأت بالفعل في البحث عن بدائل، لكن الخيارات محدودة، وتكلفة الإنتاج خارج الصين مرتفعة. في المقابل، قد يؤدي فرض رسوم جمركية جديدة إلى ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية في الولايات المتحدة، ما يضع إدارة ترامب أمام تحديات داخلية، خاصةً في ظل التضخم المتصاعد.

 

كما أن التوتر بين الولايات المتحدة والصين لا يقتصر على طرفي النزاع، بل يمتد ليشمل دولًا أخرى ترتبط بسلاسل التوريد العالمية، أو تعتمد على استقرار العلاقات بين القوتين لضمان مصالحها الاقتصادية. فالاتحاد الأوروبي، مثلًا، يعتمد على المعادن النادرة في تطوير تقنيات الطاقة المتجددة، بينما اليابان وكوريا الجنوبية تستخدمها في الصناعات الإلكترونية والدفاعية.

 

من جهةٍ أخرى، قد تستغل دول مثل روسيا أو الهند هذا التوتر لتعزيز مواقعها كموردين بديلين، أو لتوسيع نفوذها في أسواق التكنولوجيا والموارد. فكل أزمة بين واشنطن وبكين تفتح فرصًا جديدة لقوى صاعدة تبحث عن موطئ قدم في النظام الدولي.

 

 واشنطن بين التصعيد والتفاوض

 

في بيانه، أشار ترامب إلى أن إدارته تدرس «إجراءات مالية مضادة»، تشمل زيادة الرسوم الجمركية، وفرض قيود على البرمجيات الصينية، وربما إعادة النظر في الاتفاقيات التجارية السابقة. لكنه لم يغلق الباب تمامًا أمام الحوار ملمحاً إلى إمكانية اللقاء مع الرئيس الصيني في كوريا الجنوبية».

 

هذا التردد يعكس صراعًا داخليًا بين الرغبة في التصعيد، والحاجة إلى الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي. فواشنطن تدرك أن مواجهة شاملة مع بكين قد تكون مكلفة، لكنها في الوقت نفسه لا تريد أن تظهر بمظهر المتراجع، خاصة في ظل التنافس الانتخابي الداخلي.

 

الكونغرس الأميركي، الذي يشهد انقسامًا حادًا، قد يلعب دورًا في تحديد مسار الرد، خاصة في ظل ضغوط من الصناعات المتضررة، ومن الحلفاء الدوليين الذين يخشون من تداعيات الأزمة على سلاسل التوريد العالمية. فهل تنجح واشنطن في صياغة رد متوازن؟ أم أن التصعيد سيكون الخيار الوحيد؟

 

المعادن النادرة.. سلاح جيوسياسي

 

ما يميز المعادن النادرة عن غيرها من الموارد هو أنها لا تُستخدم فقط في الصناعات المدنية، بل تدخل في صلب الصناعات العسكرية والتكنولوجية المتقدمة. فالمغناطيسات المصنوعة منها تُستخدم في أنظمة التوجيه، والطائرات المقاتلة، والصواريخ، وحتى الأقمار الصناعية.

 

لذلك، فإن السيطرة على هذه الموارد تمنح الصين قدرة على التأثير في الأمن القومي للدول الأخرى، وهو ما يجعلها ورقة تفاوضية حساسة. في المقابل، ترى واشنطن أن الاعتماد على الصين في هذا المجال يُشكل تهديدًا استراتيجيًا، وتسعى منذ سنوات إلى تنويع مصادرها، سواء عبر الاستثمار في التعدين المحلي أو عبر شراكات مع دول مثل أستراليا وكندا.

 

لكن الواقع أن الصين لا تهيمن فقط على الإنتاج، بل على سلسلة التكرير والمعالجة، وهي المرحلة التي يصعب على الدول الأخرى منافستها فيها. وهذا ما يجعل أي قرار صيني بشأن التصدير يُحدث ارتدادات فورية في الأسواق، ويُعيد تشكيل موازين القوى الاقتصادية.

 

 اختبار جديد للنظام العالمي

 

ما بدأ كخلاف تجاري حول المعادن النادرة، تحوّل إلى مشهد يعكس عمق الصراع بين واشنطن وبكين على قيادة العالم. فالموارد لم تعد مجرد أدوات إنتاج، بل أصبحت أسلحة تفاوض، وأوراق ضغط، ومفاتيح للنفوذ الجيوسياسي.

 

الأسابيع المقبلة ستكون حاسمة، ليس فقط في تحديد مصير اللقاء بين «ترامب» و«شي»، بل في رسم ملامح العلاقة بين القوتين العظميين، وفي فهم كيف يمكن للموارد الاستراتيجية أن تعيد تشكيل السياسة الدولية من جديد.

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص