إرثٌ فني يتجدد عبر العصور

«ذرّات آشوب».. مسرح إيراني في مهرجان بغداد الدولي للمسرح

الوفاق: المخرج، من خلال دمج ذرات التاريخ المتناثرة لجزيرة هرمز، خلق فوضى جميلة تُعزز الروح الوطنية وتدعو الجمهور لمواجهة الإستعمار.

منذ أن وقف الإنسان الأول على خشبة بدائية ليحاكي الحياة، وُلد فن المسرح كأحد أقدم وأعمق أشكال التعبير الإنساني. إنه ليس مجرد وسيلة للترفيه، بل نافذة تطل منها المجتمعات على ذاتها، وتعيد من خلالها قراءة التاريخ، وتفكيك الواقع، واستشراف المستقبل.

 

 

المسرح هو فن اللحظة الحية، حيث يلتقي النص بالجسد، والصوت بالفضاء، والخيال بالحقيقة. إنه مساحة تفاعلية تُجسّد فيها الأفكار والمشاعر، وتُختبر فيها القيم والأسئلة الكبرى.

 

 

عبر العصور، تطوّر المسرح من الطقوس الدينية إلى العروض الكلاسيكية، ومن المسرح الشعبي إلى التجريب المعاصر، محتفظاً بقدرته على إثارة الفكر وتحريك الوجدان. وقد أصبح اليوم أداة ثقافية وسياسية، تُستخدم في مقاومة الظلم، وتوثيق الذاكرة، وبناء الحوار بين الشعوب.

 

 

سواء كان العرض كوميدياً أو تراجيدياً، واقعياً أو رمزياً، فإن المسرح يظل فناً حياً لا يُستنسخ، يُولد من التفاعل المباشر بين الممثل والجمهور، ويُعيد تشكيل العالم على خشبة صغيرة، لكنها قادرة على احتواء الكون كله.

 

مهرجان بغداد الدولي للمسرح

 

 

في مشهد احتفالي أعاد لبغداد ألقها المسرحي، انطلقت فعاليات الدورة السادسة من مهرجان بغداد الدولي للمسرح يوم الجمعة 10 أكتوبر وعقب مراسم الافتتاح، انطلقت العروض المسرحية الرسمية ومن المقرر أن تستمر فعاليات المهرجان حتى السادس عشر من الشهر الجاري، بمشاركة 15 عرضاً عربياً ودولياً إلى جانب العروض العراقية، من بينها العرض الإيراني «ذرات آشوب» أي «ذرات الفوضى»، فبهذه المناسبة نقدّم نبذة عن تاريخ المسرح في إيران، ثم نتطرق إلى المسرحية التيتمثل إيران في هذا المهرجان الدولي.

 

 

المسرح الإيراني.. إرث فني متجدد

 

 

يُعد المسرح في إيران من أعرق فروع الفن والثقافة، حيث يمتد تاريخه من الطقوس الدينية في العصور الأخمينية والساسانية إلى الإنتاجات الحديثة. وقد تطور في العصر الإسلامي من خلال طقوس مثل «التعزية»، وازدهر في العهد الصفوي والقاجاري، قبل أن يتأثر بالمسرح الأوروبي في القرن التاسع عشر، خاصة الروسي والفرنسي.

 

 

ويُعتبر ميرزا آقا تبريزي مؤسس المسرح الإيراني الحديث، حيث كتب أولى المسرحيات الاجتماعية بلغة بسيطة، وتبعه روّاد مثل عبد الحسين نوشين وبهرام بيضائي وغلام حسين ساعدي، الذين أسهموا في تطوير المسرح بأساليب علمية ومعاصرة.

 

 

«ذرات آشوب».. بيان مسرحي مناهض للإستعمار

 

 

من أبرز العروض المشاركة في المهرجان، العرض الإيراني «ذرات آشوب» من تأليف وإخراج إبراهيم بشتكوهي، والذي يُجسّد نضال الروح الجماعية لأهالي جزيرة هرمز (جنوب إيران) ضد الاستعمار البرتغالي. المسرحية ليست مجرد عرض فني، بل بيان سياسي ناري يعيد قراءة التاريخ من منظور المظلومين، ويعتمد بشتكوهي في هذا العمل على دراماتورجيا المقاومة، والمسرح الطقسي القومي، والسرد ما بعد الاستعماري، ليُقدّم سرداً حياً ومشحوناً عن نضال أهالي هرمز ضد الاستعمار البرتغالي. ويأخذ الجمهور في رحلة تاريخية-عاطفية، حيث لا يُعرض التاريخ بشكل مجرد، بل كتجربة حسية.

 

 

بدلاً من تقديم سرد كلاسيكي عن «ضحايا هرمز»، يُقدّم المخرج بنظرة ما بعد استعمارية المناضلين المحليين كفاعلين في التاريخ، ويُبدع مشاهد لامعة من نضال المظلومين، ويخلق استعارات نقية للمقاومة الثقافية ضد تحريف الأقوياء.

 

 

استعارات بصرية من تراب الأرض

 

 

تميّز العرض بتصميم بصري لافت، حيث صُممت السفن والقلعة البرتغالية من تراب هرمز الأحمر، في استعارة قوية عن تحويل أدوات المستعمر إلى رموز للمقاومة. وفي المشهد الختامي، يجلس أهالي هرمز داخل قلعة الظالمين وينشدون نشيد الحرية، لتتحول القلعة إلى بيت آمن ونموذج معماري هجين.

 

 

بطل جماعي ومقاومة متعددة الأصوات

 

 

يُبرز العرض مقاومة النساء والأطفال جنباً إلى جنب مع الرجال، ويُقدّم «بطلاً جماعياً» بدلاً من فرد واحد، في تجسيد لوحدة الشعب رغم تنوعه. كما يُعيد الممثلون خلق «الازدواجية القسرية» من خلال الرقص المحلي، والتحول إلى جنود، ورقص الجنود الهنود في الجيش البرتغالي.

 

 

قراءة فلسفية وتاريخية جريئة

 

 

يسود في العمل نظام إقطاعي وعلاقة السيد-العبد، ويُظهر كيف أن المستعمِر لا يكتمل إلا من خلال اعتراف المستعمَر، في علاقة متناقضة تُجسّدها المسرحية في مشهد طقس «زار»، الذي يتحول إلى أداة وعي جماعي ومقاومة.

 

 

كل مشهد في العرض هو إجابة للمشهد السابق وسؤال للمشهد التالي، مما يُجسّد الحركة الجدلية في بنية المسرحية. ويُظهر أن التقدم ليس خطياً، بل يتحقق عبر التناقضات، في قراءة فلسفية تستلهم من هيغل والمادية الجدلية.

 

 

«ذرات آشوب» هو مسرح مادي وسرد متعدد الطبقات عن مقاومة أهالي هرمز ضد الاستعمار البرتغالي، يكسر الزمن الخطي، يكشف تناقضات الاستعمار، ويدعو الجمهور إلى الفعل. ويُثبت أن المسرح يمكن أن يكون أرشيفاً، وسلاحاً، وأن يُخرج الحقائق المدفونة، ويتنبأ بمستقبل تحرري.

 

 

من بغداد إلى بندرعباس.. صدى العرض يتسع

 

 

ومن المقرر أنه بعد عرضه في مهرجان بغداد، يُعرض «ذرات آشوب» في مدينة بندرعباس جنوب إيران، حيث يُتوقع أن يُحدث صدى ثقافياً كبيراً، خاصة في ظل اهتمامه بإحياء الذاكرة التاريخية لشعوب الجنوب الإيراني، وتقديم قراءة فنية جريئة لتاريخهم المقاوم.

 

 

الفن كأداة للتحرر

 

 

«ذرات آشوب» يُثبت أن المسرح الشعبي، حين ينبثق من تراب الأرض والوعي الجماعي، يمكن أن يكون أكثر تأثيراً من الشعارات السياسية، ويُعيد للمسرح دوره كمنصة للتنوير والمواجهة. إنه عرض يُجسّد كيف يمكن للفن أن يكون سلاحاً لكسر القدر التاريخي، وأرشيفاً حياً للمقاومة.

 

 

«ذرات آشوب» ليست مجرد مسرحية؛ بل اجتماع فني مناهض للاستعمار. المخرج، من خلال دمج ذرات التاريخ المتناثرة لجزيرة هرمز (الطقوس، الدم، التراب الأحمر، النشيد والموسيقى)، خلق فوضى جميلة تُعزز الروح الوطنية وتدعو الجمهور لمواجهة الاستعمار.

 

 

هذا العمل يُثبت أن المسرح الشعبي، حين ينبثق من تراب المقاومة، يمكن أن يكون أكثر ثورية من شعارات الساسة والمشاهير الافتراضيين.

 

 

المصدر: الوفاق