في خضم الحرب المستعرة بين موسكو وكييف، وفي لحظة سياسية فارقة، اجتمع دونالد ترامب بنظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض، في لقاء وصفته الصحافة العالمية بأنه «عاصف» و«مباراة صراخ»، خرج منه زيلينسكي محمّلاً بتهديدات مباشرة: إما القبول بشروط روسيا، أو مواجهة الدمار. هذا اللقاء لم يكن مجرد اجتماع بين حليفين، بل لحظة مفصلية كشفت عن تغير جذري في الموقف الأميركي من الأزمة، وأعادت ترتيب الأوراق الجيوسياسية في شرق أوروبا. فبعد أكثر من عامين ونصف من الدعم العسكري والسياسي الغربي لكييف، بدا أن واشنطن، تميل إلى خيار التسوية، حتى لو تطلب ذلك تنازلات إقليمية من أوكرانيا لصالح روسيا.
اللقاء الذي كان يُنتظر أن يُفضي إلى التزامات جديدة، انتهى بخيبة أمل أوكرانية، بعدما رفض ترامب تزويد كييف بصواريخ «توماهوك» بعيدة المدى، وبدأ يلوّح مجدداً بإمكانية إنهاء الحرب عبر «تبادل الأراضي». هذا التحول أثار قلقاً واسعاً في أوروبا، وأعاد إلى الواجهة سيناريوهات كانت تُعتبر حتى وقت قريب غير واقعية، مثل تجميد القتال أو القبول الضمني بسيطرة روسيا على أجزاء واسعة من الشرق الأوكراني.
الخلفية التاريخية للصراع الروسي الأوكراني
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، ظلت أوكرانيا تمثل نقطة ارتكاز في التوازن الجيوسياسي بين روسيا والغرب. ومع توسع حلف الناتو شرقاً، بدأت موسكو ترى في كييف تهديداً مباشراً لأمنها القومي. تفاقم التوتر عام 2014 بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، ثم اندلاع النزاع في دونباس، حيث أعلنت جمهوريتا دونيتسك ولوغانسك الانفصال بدعم روسي غير مباشر.
السنوات التالية شهدت تصعيداً متدرجاً، وصولاً إلى العملية العسكرية الروسية في فبراير/ شباط 2022، التي اعتبرتها موسكو خطوة استباقية لمنع تحول أوكرانيا إلى قاعدة أطلسية. في المقابل، تبنّى الغرب سردية الدفاع عن الديمقراطية، وبدأ بتسليح كييف بشكل غير مسبوق، ما أدى إلى إطالة أمد الحرب، وتحويلها إلى صراع إقليمي ذي أبعاد دولية.
موسكو.. الأمن القومي أولاً
بالنسبة لروسيا، فإن الحرب ليست مجرد نزاع حدودي، بل معركة وجودية. منطقة دونباس، التي تضم أغلبية ناطقة بالروسية، تمثل خط الدفاع الأول ضد تمدد الناتو. السيطرة عليها تعني تحييد التهديدات الغربية، وضمان استقرار الحدود الجنوبية الغربية لروسيا.
الرئيس فلاديمير بوتين، خلال اتصاله مع ترامب، عرض تسوية تقوم على تنازل أوكرانيا عن دونباس مقابل تخفيف المطالب في خيرسون وزابوريجيا. هذا العرض، الذي وصفته الصحافة بأنه أقل من مطلب بوتين الأصلي لعام 2024، يعكس مرونة سياسية، ورغبة في إنهاء الحرب دون إذلال الطرف الآخر. من وجهة نظر روسية، فإن هذه التسوية ليست إذلالاً، بل إعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي، حيث تُحترم مصالح الدول الكبرى، وتُعاد صياغة التوازن الإقليمي بعيداً عن الهيمنة الغربية.
ترامب لكييف.. لا مزيد من التصعيد
دونالد ترامب، الذي استقبل زيلينسكي في البيت الأبيض، لم يخفِ موقفه الحازم. بحسب ما نقلته «فايننشال تايمز» ووكالات أخرى، أصر ترامب على أن يسلم زيلينسكي منطقة دونباس بأكملها لروسيا، مكرراً نقاط الحديث التي طرحها بوتين في اتصالهما السابق. هذا التكرار لا يعكس فقط تقارباً في الرؤية، بل يشير إلى رغبة أميركية في إنهاء الحرب بأي ثمن، حتى لو كان ذلك على حساب السيادة الأوكرانية.
ترامب، الذي رفض تزويد أوكرانيا بصواريخ «توماهوك»، بدا وكأنه يوجّه رسالة إلى كييف: لا مزيد من التصعيد، بل تسوية واقعية. وفي نهاية الاجتماع، وافق على تجميد خطوط القتال الراهنة، وهو ما اعتبره زيلينسكي «نقطة مهمة»، رغم خيبة الأمل التي عبّر عنها الوفد الأوكراني.
زيلينسكي أمام خيارين أحلاهما مرّ
زيلينسكي، الذي وصل إلى واشنطن طالباً الدعم العسكري، وجد نفسه أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما القبول بشروط روسيا، أو مواجهة تهديدات وجودية. ورغم أن أوكرانيا نجحت في إقناع ترامب بتجميد خطوط القتال، إلا أن هذا التجميد لا يعني نهاية الحرب، بل بداية مرحلة جديدة من الضغط السياسي، حيث تتحول كييف إلى ورقة تفاوض بين قوتين عظميين.
العناد السياسي الذي يبديه زيلينسكي يهدد مستقبل أوكرانيا. فرفض التسوية يعني استمرار الحرب، واستنزاف الموارد، وتدمير البنية التحتية، بينما القبول يمنح كييف فرصة لإعادة بناء نفسها، بعيداً عن أوهام الانتصار.
قمة بودابست.. تثبيت واقع جديد
الاتفاق المبدئي بين ترامب وبوتين على عقد قمة ثانية في بودابست خلال أسبوعين، بعد فشل قمة ألاسكا، يعكس رغبة الطرفين في إيجاد مخرج دبلوماسي للأزمة. هذه القمة، التي قد تكون حاسمة، تمثل فرصة تاريخية لإعادة ترتيب الأوراق، وتثبيت واقع جديد في شرق أوروبا.
من منظور روسي، فإن قمة بودابست يجب أن تكون منصة لتكريس الاعتراف الدولي بسيطرة موسكو على المناطق التي تعتبرها جزءاً من أمنها القومي. أما من منظور أميركي، فهي فرصة لإنهاء حرب مكلفة، دون الدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا. وبين هذين المنظورين، تقف أوكرانيا، مطالبة باتخاذ قرار مصيري: إما السلام بشروط واقعية، أو الاستمرار في حرب عبثية.
الاتحاد الأوروبي غائب أم متواطئ؟
رغم أن أوروبا هي المتضرر الأكبر من استمرار الحرب، فإن موقف الاتحاد الأوروبي بدا باهتاً في هذه المرحلة. بروكسل لم تكن حاضرة في اللقاء، ولم تصدر أي موقف رسمي بشأن التهديد الأميركي أو العرض الروسي. هذا الغياب يطرح تساؤلات حول مدى استقلالية القرار الأوروبي، وهل باتت أوروبا تابعة للمزاج الأميركي، أم أنها تفضل التزام الصمت في انتظار ما ستسفر عنه القمة المرتقبة.
من منظور روسي، فإن غياب أوروبا عن المشهد يعكس ضعفاً استراتيجياً، ويمنح موسكو فرصة لتثبيت رؤيتها دون مقاومة حقيقية. وإذا استمر هذا الغياب، فإن ذلك يعني أن مستقبل أوكرانيا سيُرسم في واشنطن وموسكو، لا في بروكسل أو كييف.
الإعلام الغربي وتضليل الرأي العام
منذ بداية الحرب، لعب الإعلام الغربي دوراً كبيراً في تصوير روسيا كقوة معتدية، وأوكرانيا كضحية بريئة. لكن هذا التصوير يتجاهل الحقائق التاريخية، والجذور الثقافية للصراع. فروسيا لم تبدأ الحرب من فراغ، بل ردّت على استفزازات مستمرة، ومحاولات لجرّ أوكرانيا إلى حلف الناتو، في تجاهل تام لمخاوف موسكو الأمنية.
التهديد الذي نقله ترامب ليس تهديداً روسياً، بل تحذيراً من عواقب الاستمرار في التصعيد. وإذا كان الإعلام الغربي يصرّ على تصوير بوتين كقائد متصلب، فإن الواقع يقول إن روسيا قدمت عروضاً للتسوية، وقبلت بتنازلات، بينما الطرف الآخر يرفض الحوار، ويصرّ على المواجهة.
تراجع الدعم الشعبي للحرب
في الداخل الأوكراني، بدأت تظهر مؤشرات على تراجع الدعم الشعبي للحرب. استطلاعات الرأي تشير إلى أن نسبة كبيرة من المواطنين باتت تفضل التسوية على استمرار القتال. المعارضة السياسية بدأت ترفع صوتها، مطالبة بوقف الحرب، وإعادة النظر في العلاقة مع الغرب. حتى في الجيش، ظهرت أصوات تطالب بإعادة تقييم الاستراتيجية، في ظل الخسائر البشرية والمادية المتزايدة.
من منظور روسي، فإن هذا التراجع الشعبي يُمثل فرصة لتعزيز مسار التسوية، وإقناع كييف بأن الحل لا يكمن في المزيد من السلاح، بل في الحوار والاعتراف بالواقع الجيوسياسي.
خيارات كييف في ظل التحولات الأمريكية
في ظل هذا المشهد المعقد، يمكن تصور عدة سيناريوهات محتملة أولها القبول بالتسوية الروسية، مقابل ضمانات أميركية بعدم التصعيد. هذا السيناريو يفتح الباب أمام وقف إطلاق النار، والبدء بمفاوضات ترسيم حدود جديدة. من منظور روسي، هذا الخيار يحقق الأهداف الاستراتيجية دون الحاجة إلى مزيد من العمليات العسكرية، ويمنح أوكرانيا فرصة لإعادة بناء نفسها ضمن واقع جيوسياسي جديد.
وثانيها هو رفض زيلينسكي للعرض، واستمرار الحرب، مع تراجع الدعم الغربي. هذا الخيار ينذر بكارثة إنسانية، حيث ستواصل روسيا عملياتها العسكرية، بينما تعاني أوكرانيا من نقص في الذخيرة والدعم اللوجستي. في هذا السيناريو، قد تنهار الجبهات الأوكرانية، وتضطر كييف إلى القبول بشروط أكثر قسوة لاحقاً.
أمّا ثالثها فهو التجميد الطويل للصراع، دون تسوية نهائية. في هذا السيناريو، تبقى خطوط القتال ثابتة، وتتحول الحرب إلى نزاع غير شديد، هذا الخيار لا يرضي أحداً، لكنه قد يكون مخرجاً مؤقتاً لتجنب التصعيد، بانتظار تغيرات سياسية داخلية في كييف أو واشنطن.
أوكرانيا بين ضغط الحلفاء وتهديد الخصوم
ما حدث في البيت الأبيض ليس مجرد لقاء سياسي، بل لحظة مفصلية في تاريخ الحرب الأوكرانية. تهديد ترامب لزيلينسكي بالدمار إذا لم يقبل شروط بوتين، يكشف عن تغير عميق في موازين القوى، ويطرح تحديات وجودية أمام أوكرانيا. فبين ضغوط الحلفاء، وتهديدات الخصوم، تجد كييف نفسها أمام خيار صعب: الدفاع عن الأرض مهما كان الثمن، أو القبول بتسوية.