المزاح في الميزان.. تربية للنفس أم عبث بالقيم؟

لم يَعُد المزاح حكرًا على التَّفاعل المباشر بين النَّاس؛ إذ امتدَّ حضوره إلى الشَّاشات عبر المسلسلات والبرامج الكوميديَّة، التي تبدو في ظاهرها مسليَّة وجذَّابة للوهلة الأولى، إلَّا أنَّ الإفراط فيها قد يؤدِّي إلى تشويه القيم الأخلاقية، وإضعاف الحس الاجتماعي، وتحريف معنى المزاح الحقيقي المرتبط بالخلق الحسن والتَّواصل الإيجابي...

في عالم تتسارع فيه الأحداث وتزداد ضغوط الحياة على الإنسان، يبرز المزاح بوصفه أحد أبسط وأرقى وسائل التَّسلية وراحة النَّفس؛ فهو يضفي السُّرور على القلب، ويخفف من التَّوتر، ويقرِّب بين القلوب إذا كان ضمن حدود الأدب والاحترام. غير أنَّ المزاح ليس حديثًا عابرًا ولا تسليةً آنية؛ وإنَّما هو خُلق له آدابه وضوابطه التي تصون صاحبه ومن حوله من الوقوع في الإساءة.

 

ومع ذلك، لم يَعُد المزاح حكرًا على التَّفاعل المباشر بين النَّاس؛ إذ امتدَّ حضوره إلى الشَّاشات عبر المسلسلات والبرامج الكوميديَّة، التي تبدو في ظاهرها مسليَّة وجذَّابة للوهلة الأولى، إلَّا أنَّ الإفراط فيها قد يؤدِّي إلى تشويه القيم الأخلاقية، وإضعاف الحس الاجتماعي، وتحريف معنى المزاح الحقيقي المرتبط بالخلق الحسن والتَّواصل الإيجابي.

 

ومن هنا تبرز الحاجة إلى التَّمييز بين المزاح القائم على الأدب والخلق الرَّفيع، والمزاح المبتذل الذي تروج له بعض البرامج، والذي قد يترك آثارًا سلبيَّة على الفرد والمجتمع.

 

المحور الأوَّل: تعريف المزاح لغةً واصطلاحًا

 

إنَّ التَّأمل في تعريف المزاح، لغةً واصطلاحًا، يكشف لنا عن أثر هذا السُّلوك وبُعده النَّفسي؛ فالمزاح في اللغة كما يذكر ابن منظور في لسان العرب: “الدُّعابةُ، وفي المحكم: المَزْحُ نقيضُ الجِدِّ؛ مَزَحَ يَمْزَحُ مَزْحًا ومِزاحًا ومُزاحًا ومُزاحةً، وقد مازَحه مُمازَحةً ومِزاحًا والاسم المُزاح، بالضم، والمُزاحة أَيضًا”؛ وهو ما يُدخل على النَّفس خفَّة وسرورًا، فيكون نقيضًا للجدِّ في معناه، من دون أن يتحوَّل إلى هزلٍ فارغ. وبعبارة أخرى: المزاح، مساحة من الطَّرافة تُنعش القلوب وتبثُّ في العلاقات دفئًا وودًّا، من دون أن تمسَّ الكرامة أو تُضعف الهيبة.

 

أمَّا المُزاحُ اصطِلاحًا، فهو: “قَولٌ أو فِعلٌ يريدُ به صاحِبُه مُداعبةَ غَيرِه، وقد يكونُ ذلك مشروعًا أو ممنوعًا”. ومن هذا التَّعريف ندرك أننا أمام سلوكٍ مقصودٍ يحمل نيَّةً طيِّبة متى ما التزم صاحبه بحدود الأدب والخلق، إلَّا أنَّ المزاح قد ينقلب إلى إساءةٍ حين يتجاوز حدود الأدب والاحترام، وهنا تظهر حقيقته بوصفه وسيلةً لا بوصفه غاية، تُقاس بها حكمة الإنسان ورُقيّ طبعه. فالمزاح الممدوح هو ما كان غايته إدخال السُّرور إلى القلوب وتلطيف الأجواء، وأمَّا المذموم فهو ما يقوم على الاستخفاف بالقيم، أو السُّخرية من الآخرين، أو ما يزرع في النُّفوس الضَّغينة بدل المودَّة.

 

إذن، فالمزاح في حقيقته فنٌّ أخلاقي يُظهر عمق توازن النَّفس ورصانتها. والمؤمن لا يُفرِط فيه حتَّى يفقد وقاره، ولا يُفرِّط فيه حتَّى يغلظ طبعه؛ وإنَّما يجعله جسرًا يُقرِّب القلوب لا سيفًا يُباعدها، وضحكةً تُنعش الأرواح لا سخريةً تُوجِع القلوب.

 

وهناك فروق دقيقة تفصل بين المزاح وغيره من المصطلحات القريبة منه في المعنى، ونذكر منها ما يأتي:

 

1. الفَرْق بَيْنَ المُزاحِ والهَزْلِ: “أنَّ الهَزْلَ يقتضي تواضُعَ الهازِلِ لِمن يَهزِلُ بَيْنَ يدَيه، والمُزاحَ لا يقتضي ذلك؛ فالمَلِكُ يمازِحُ خَدَمَه وإن لم يتواضَعْ لهم تواضُعَ الهازِلِ لِمَن يَهزِلُ بَيْنَ يدَيه، والنَّبيُّ (صلَّى الله عليه (وآله) وسلم يمازِحُ ولا يجوزُ أن يُقالَ: يَهزِلُ. ويقالُ لمن يَسخَرُ: يَهزِلُ، ولا يُقالُ: يَمزَحُ”.

 

2. الفَرْقُ بَيْنَ المُزاحِ والاستِهزاءِ: “المُزاحَ لا يقتضي تحقيرَ مَن يمازِحُه، ولا اعتقادَ ذلك؛ فالتَّابعُ يمازِحُ المتبوعَ من الرُّؤساءِ والملوكِ، ولا يقتضي ذلك تحقيرَهم ولا اعتقادَ تحقيرِهم، ولكِنْ يقتضي الاستئناسَ بهم، والاستهزاءُ يقتضي تحقيرَ المُستهزَأِ به، واعتقادَ تحقيرِه” .

3. الفَرْقُ بَيْنَ المُزاحِ والطُّرْفةِ: “الطُّرْفةُ: ما يُستطرَفُ ويُستملَحُ. يقالُ: أطرَفَ الرَّجُلُ: جاء بطُرفةٍ، والجَمعُ: طُرَفٌ. ورَجُلٌ طريفٌ: هَشٌّ. فالطُّرفةُ وَسيلةٌ من وسائِلِ المُزاحِ”.

4. الفَرْقُ بَيْنَ المُزاحِ والفُكاهةِ: “يقالُ: رَجُلٌ فَكِهٌ: مُنبَسِطُ النَّفسِ مَزَّاحٌ صاحِبُ دُعابةٍ. وفاكَهْتُ القَومَ مُفاكَهةً بمُلَحِ الكلامِ والمُزاحِ. والمفاكَهةُ: المُمازحةُ (6). وقيل للمُزاحِ: فُكاهةٌ؛ لِما فيه من مسَرَّةِ أهلِه، واستِمتاعٍ به” .

وتُظهر هذه الفروق أنَّ الألفاظ المتقاربة في ظاهرها تحمل معاني مختلفة، تكشف عن دقَّة اللغة في تصوير مقاصد السُّلوك؛ فـالمزاح يختلف عن الهزل بأنَّ الأوَّل لا يُسقط الهيبة ولا يستلزم التَّواضع المفرط، ولذلك جاز من الأنبياء والملوك، بينما الهزل فيه خِفّة ومساس بالمقام.

ويفترق المزاح عن الاستهزاء بأنَّ المزاح يقوم على الأُنس والمحبَّة، أمَّا الاستهزاء فمبناه التَّحقير والإهانة، وإن تشابها في ظاهر الكلام. أمَّا الطُّرفة فهي وسيلة من وسائل المزاح، تُستخدم للإضحاك أو الإمتاع؛ لكنَّها تبقى جزئيَّةً ضمن دائرة المزاح الأوسع.

وأخيرًا، الفكاهة صفة في النَّفس تدلّ على انبساط الطَّبع وحب السُّرور، بينما المزاح فعلٌ أو موقفٌ عارض يصدر من الإنسان في لحظةٍ معيَّنة. وبذلك يتبيَّن أنَّ المزاح خُلُقٌ منضبط، يعبِّر عن صفاء النَّفس وحسن المعاشرة، متى ما كان بريئًا من السُّخرية والمساس بالكرامة.

 

المحور الثَّاني: فوائد المزاح.

وفيما يلي نستعرض أهمَّ ثمار المزاح الممدوح وآثاره الإيجابيَّة في النَّفس والعلاقات الإنسانيَّة:

أوَّلًا: مفتاح القلوب: من ثمار المزاح المعتدل أنَّه يزرع المودَّة في القلوب، ويُحبِّب الإنسان إلى النَّاس؛ لأنَّه يخاطب الجانب الودود في النَّفس البشريَّة، فيقرِّب البعيد، ويصلح ما تكدَّر من العلاقات؛ فالكلمة الممزوجة بالمزاح اللطيف تفتح باب التَّواصل الصَّادق الذي قد لا يُفتَح بالكلام الجادّ وحده.

إنَّ الإنسان بطبيعته يميل إلى مَن يُضحكه من دون أن يُهينه أو يتجاوز حدَّ الأدب؛ ولذلك يدخل المزاح المعتدل القلوب بلا استئذان؛ لأنَّه يعبِّر عن طيبة القلب ولين الطَّبع وحُسن المعاشرة. فهو لا ينتزع الضحك قسرًا، ويمنحه برفقٍ ورحمة، فيشعر الآخر معه بالأمان النَّفسي.

وليس غريبًا أن يكون المزاح الطيِّب من أسباب محبَّة النَّاس وارتياحهم؛ إذ النُّفوس لا تميل إلى العبوس الدَّائم ولا إلى الصَّرامة المطلقة، وتحب من يجمع بين الجدِّ والمرح، والهيبة والبسمة، في توازنٍ يدل على نضج الشَّخصيَّة ورحابة الصَّدر.

إنَّ المزاح المعتدل يترك في النُّفوس أثرًا عميقًا؛ لأنَّ من يُحسن المزاح هو في الحقيقة من يُحسن فهم النَّاس، ويعرف متى يبتسم، ومتى يصمت، ومتى يُدخل السُّرور من دون أن يُسقط المهابة. وهكذا يصبح المزاح بابًا إلى المحبَّة، ومفتاحًا للقلوب، ومظهرًا من مظاهر الحكمة في التَّعامل مع الآخرين.

ثانيًا: نسيم منعش: من مزايا المزاح الحسن أنَّه يُحوِّل المجالس الجافَّة إلى واحات من البهجة، ويغمر النُّفوس بأنسٍ يُرمِّم ما تتركه الحياة من تعبٍ ووحشة. فهو نسيمٌ لطيف يهب على العلاقات، فينعشها، ويجدِّد حيويَّتها، ويقوّي أواصرها.

لقد خُلق الإنسان ميَّالًا إلى الأنس والمشاركة، يحتاج إلى من يُخفف عنه همَّه، ويفتح له نافذة من الفرح وسط ركام الهموم، والمزاح المعتدل هو السَّبيل النَّبيل لذلك. فعندما يمازح المؤمن أخاه بكلمة لطيفة أو ابتسامة صادقة، فإنَّه يعبِّر عن محبَّته الخالصة ووفائه الصَّادق.

 

ثالثًا: تجديد الحيويَّة: مهما علت النَّفس البشريَّة واشتغلت بالجدِّ والسَّعي؛ فإنَّها لا تخلو من لحظات إرهاقٍ وضيق، تحتاج فيها إلى نسمة ترفيهٍ تُعيد إليها توازنها، وتغسل عنها غبار التكرار ورتابة الأيَّام. والمزاح المعتدل هو بمثابة نسمةٍ باردةٍ تمرّ على قلبٍ أنهكه الجِدُّ، تُنعشه من دون أن تُفسده، وتفتح له باب الانطلاق بعد طول انشغال. فهو يحرِّر النَّفس من ضغط الجديَّة المفرطة، كما تُحرِّر الابتسامةُ الوجهَ من عبوسٍ طال، فيتجدد النَّشاط ويُستعاد الإقبال على الحياة بروحٍ أخفّ وأكثر صفاءً.

ولذلك كان المزاح في سيرة النَّبيّ الأكرم (ص) وأهل بيته الطَّاهرين (عليهم السلام) أداةً تربويةً راقيةً لتجديد النَّفس لا لإسقاط وقارها، يمارسونه بين الحين والآخر ليُخففوا عن النَّاس ثقل الحياة وهمومها؛ إذ إنَّ من لا يُجيد التَّرفيه عن نفسه بلطفٍ واعتدالٍ يُتعب روحه ويُرهق قلبه حتَّى تكلّ وتملّ.

 

رابعًا: فتح القلوب المغلقة: ومن فوائد المزاح الممدوح أنَّه يستميل القلوب ويفتح مغاليقها برفقٍ وحنان، فالكلمة اللطيفة الممزوجة بابتسامة صادقة قادرة على أن تفتح في النَّفس بابًا لا تفتحه المواعظ الجافَّة ولا الخطابات الجادة؛ ولذلك، كان المزاح المعتدل في حياة النَّبيّ (ص) وأهل بيته (عليهم السلام) مدرسةً في فنِّ كسب القلوب؛ حيث جمعوا بين جدّية الرِّسالة ولطف المعاملة، فاستأثروا بمحبَّة النَّاس قبل إفهامهم الأحكام، وحبَّبوا الدِّين في النفوس قبل تكليفهم بما يوجبونه؛ فالقلوب تُفتَح بالرَّحمة والابتسامة والرُّوح الطيِّبة، وهذا جوهر رسالة المزاح النَّبيل في الإسلام.

 

 

المصدر: وكالات

الاخبار ذات الصلة