محاولة لإعادة تشكيل النظام الدولي وفق رؤية أميركية

جولة ترامب الآسيوية.. بين الطموحات النووية والتجاذبات التجارية

تأتي جولة ترامب في وقتٍ حساس، إذ تشهد آسيا تحولات استراتيجية واقتصادية متسارعة، الصين تواصل صعودها الاقتصادي، وكوريا الشمالية تلوّح بورقة النووي

في خضم التوترات الجيوسياسية والتجارية المتصاعدة، يعود دونالد ترامب إلى الساحة الدولية بجولة آسيوية تحمل في طياتها رسائل متعددة، تبدأ من ماليزيا وتشمل اليابان وكوريا الجنوبية، وتُتوّج بلقاءات مرتقبة مع زعماء مؤثرين مثل كيم جونغ أون، شي جينبينغ، ولولا دا سيلفا. هذه الجولة، الأولى منذ عودته إلى البيت الأبيض في يناير/ كانون الثاني 2025، ليست مجرد زيارة دبلوماسية، بل محاولة لإعادة تشكيل ملامح السياسة الخارجية الأميركية في ظل عالم متغير، وقد وصل ترامب، صباح يوم أمس الأحد، إلى العاصمة الماليزية كوالالمبور، لحضور قمة آسيان، في إطار جولة تستمر 5 أيام في آسيا.

 

 لماذا آسيا الآن؟

 

تأتي جولة ترامب في وقتٍ حساس، إذ تشهد آسيا تحولات استراتيجية واقتصادية متسارعة. الصين تواصل صعودها الاقتصادي، وكوريا الشمالية تلوّح بورقة النووي، والبرازيل بقيادة لولا تسعى لتوسيع نفوذها في المحافل الدولية. اختيار ترامب لآسيا يعكس إدراكه لأهمية هذا الإقليم في رسم مستقبل العلاقات الدولية، خصوصًا في ظل التنافس الأميركي-الصيني الذي بلغ ذروته في السنوات الأخيرة.

 

 هل يمكن تجاوز العقبات النووية؟  

 

في تصريحٍ لافت، قال ترامب إن كوريا الشمالية «قوة نووية نوعاً ما»، ملمّحًا إلى امتلاكها ترسانة نووية معتبرة. هذا التصريح يفتح الباب أمام تساؤلات حول مدى استعداد واشنطن للاعتراف الرسمي بهذا الواقع، وما إذا كان ذلك سيشكّل أساسًا لحوار جديد بين البلدين.

 

منذ لقاء سنغافورة التاريخي عام 2018، ثم لقاء هانوي في 2019، لم تُسفر المحادثات بين ترامب وكيم عن نتائج ملموسة. واليوم، يعود ترامب ليعبّر عن رغبته في لقاء الزعيم الكوري الشمالي، مؤكدًا أنه «يتفق» معه. لكن هل يكفي التوافق الشخصي لتجاوز العقبات النووية؟ أم أن المسألة تتطلب مقاربة مؤسساتية أكثر تعقيدًا؟

 

 النووي أداة تفاوض أم تهديد دائم؟

 

منذ أن دخلت كوريا الشمالية نادي الدول النووية فعليًا، باتت سياستها الخارجية تتمحور حول هذه الورقة. تصريحات ترامب الأخيرة التي وصف فيها بيونغ يانغ بأنها «قوة نووية نوعاً ما» ليست مجرد اعتراف ضمني، بل تحمل دلالات استراتيجية. فهي تشير إلى تحول في الخطاب الأميركي من الإنكار إلى الواقعية، ما قد يفتح الباب أمام مفاوضات جديدة، لكن بشروط مختلفة.

 

طلب كوريا الشمالية الاعتراف بها كقوة نووية كشرط للحوار يعكس ثقة متزايدة في موقعها الجيوسياسي. هذا الطلب يضع واشنطن أمام معضلة: هل تفتح باب الحوار وتكسر أحد ثوابت سياستها الخارجية؟ أم تواصل سياسة الضغط والعقوبات؟ في كلا الحالتين، يبدو أن بيونغ يانغ باتت تمتلك أوراقًا تفاوضية أقوى من أي وقت مضى.

 

البرازيل بين الرسوم الجمركية والدبلوماسية

 

أبدى ترامب انفتاحًا على خفض الرسوم الجمركية المفروضة على البرازيل «في ظل الظروف المناسبة»، ما يعكس رغبة في إعادة ضبط العلاقات التجارية بين البلدين. لقاءه المرتقب مع لولا دا سيلفا في قمة آسيان قد يكون فرصة لإعادة بناء الثقة، خصوصًا أن لولا يسعى لتوسيع الشراكات الاقتصادية خارج الإطار التقليدي الأميركي-لاتيني.

 

وجود لولا في قمة آسيان يعكس طموح البرازيل في لعب دور عالمي يتجاوز حدود أميركا الجنوبية. هذا الحضور يضعها في موقع تفاوضي جديد، خصوصًا في ظل تقاربها المتزايد مع الصين وروسيا ضمن مجموعة «بريكس».

 

المحادثات مع شي جينبينغ؛ الاقتصاد أولًا

 

تُعد المحادثات بين ترامب وشي جينبينغ في ماليزيا من أبرز محطات الجولة، إذ يسعى الطرفان إلى تجنب فرض رسوم إضافية بنسبة 100% على الواردات الصينية. التصريحات الأميركية تشير إلى أن المحادثات كانت «بناءة جدًا»، ما يفتح الباب أمام احتمال التوصل إلى اتفاق تجاري جديد.

 

منذ توليه السلطة، رسّخ شي جينبينغ موقع الصين كقوة اقتصادية وعسكرية عالمية. لقاؤه مع ترامب يأتي في ظل تصاعد التوترات في بحر الصين الجنوبي، وتنامي النفوذ الصيني في أفريقيا وأميركا اللاتينية. هل يستطيع ترامب كبح هذا الصعود؟ أم أن واشنطن ستضطر للتكيف مع واقع عالمي متعدد الأقطاب؟

 

ترامب بين الواقعية والرمزية

 

منذ عودته إلى البيت الأبيض، يسعى ترامب لإعادة رسم ملامح السياسة الخارجية الأميركية وفق رؤيته الخاصة، التي تمزج بين الواقعية الاقتصادية والرمزية السياسية. جولته الآسيوية تعكس هذا التوجه، حيث يركز على الملفات التجارية والنووية، دون الغوص في قضايا حقوق الإنسان أو الديمقراطية، التي كانت محورًا في إدارات سابقة.

 

يعتمد ترامب على أسلوب «الدبلوماسية الشخصية»، حيث يراهن على علاقاته الفردية مع الزعماء لتحقيق اختراقات سياسية. لكن هذا الأسلوب يواجه تحديات، خصوصًا في ملفات معقدة مثل النووي الكوري أو الحرب التجارية مع الصين، التي تتطلب تفاهمات مؤسساتية عميقة.

 

قمة آسيان.. هل هي ساحة مواجهة؟

 

قمة آسيان في ماليزيا ليست مجرد مناسبة دبلوماسية، بل أصبحت ساحة لتبادل الرسائل السياسية بين القوى الكبرى. حضور ترامب، ولولا، وشي جينبينغ في القمة نفسها يعكس تداخل المصالح وتعدد الأجندات.

 

دول آسيان تحاول الحفاظ على حيادها في الصراع الأميركي-الصيني، لكنها تجد نفسها مضطرة للانحياز أحيانًا بفعل الضغوط الاقتصادية أو الأمنية. جولة ترامب قد تكون محاولة لاستمالة هذه الدول عبر وعود تجارية أو أمنية، خصوصًا في ظل تنامي النفوذ الصيني في المنطقة.

 

 هل تعيد الجولة ضبط الإيقاع؟

 

الاقتصاد العالمي يمر بمرحلة اضطراب، أبرز ملامحه التضخم في أميركا وأوروبا. جولة ترامب تحمل في طياتها رسائل تطمينية للأسواق، خصوصًا إذا ما تم التوصل إلى اتفاقات تجارية جديدة.

 

سياسة ترامب القائمة على فرض الرسوم الجمركية أثارت جدلاً واسعًا، إذ يرى البعض أنها تحمي الصناعة الأميركية، بينما يعتبرها آخرون سببًا في ارتفاع الأسعار وتباطؤ النمو. لقاءاته مع شي ولولا قد تكون فرصة لإعادة تقييم هذه السياسات، خصوصًا إذا ما تم ربطها بملفات أخرى مثل الطاقة أو الأمن السيبراني.

 

كيف ينظر الداخل الأميركي إلى الجولة؟

 

في الداخل الأميركي، تنقسم الآراء حول جولة ترامب. أنصاره يرون فيها تأكيدًا على عودته القوية للساحة الدولية، بينما يعتبرها خصومه محاولة لصرف الأنظار عن الملفات الداخلية مثل الهجرة والاقتصاد.

 

وسائل الإعلام الأميركية تتعامل مع الجولة بحذر، حيث تركز على اللقاءات المرتقبة، لكنها تطرح تساؤلات حول جدوى هذه اللقاءات، خصوصًا في ظل غياب نتائج ملموسة من لقاءات سابقة.

 

الأمن السيبراني في قلب المحادثات

 

رغم أن التركيز الإعلامي انصب على الملفات النووية والتجارية، فإن الأمن السيبراني كان حاضرًا في الكواليس. الولايات المتحدة تسعى لتقييد النفوذ الرقمي الصيني، خصوصًا في مجالات الذكاء الاصطناعي وشبكات الجيل الخامس. جولة ترامب قد تكون فرصة لتنسيق المواقف مع حلفاء آسيويين حول هذا الملف، الذي بات يشكل تهديدًا استراتيجيًا متصاعدًا.

 

التحالفات الأمنية في الميزان

 

من بين الملفات التي لم تُطرح علنًا خلال الجولة، لكن يُعتقد أنها كانت حاضرة في الكواليس، ملف التحالفات الأمنية في آسيا. فمع تصاعد التوترات في بحر الصين الجنوبي، وتنامي النفوذ العسكري الصيني، تجد واشنطن نفسها أمام تحدي إعادة تفعيل تحالفاتها التقليدية، مثل «كواد» (الولايات المتحدة، اليابان، الهند، أستراليا) و«أوكوس» (الولايات المتحدة، بريطانيا، أستراليا). جولة ترامب قد تكون تمهيدًا لإعادة ضبط هذه التحالفات، ليس فقط لمواجهة الصين، بل أيضًا لإعادة تأكيد التزام واشنطن بأمن حلفائها في المحيطين الهندي والهادئ.

 

لكن في المقابل، فإن بعض الدول الآسيوية باتت تتردد في الانخراط في استقطابات حادة، مفضّلة الحفاظ على علاقات متوازنة مع كل من واشنطن وبكين. هذا التردد يفرض على ترامب مقاربة أكثر مرونة، تقوم على الحوافز الاقتصادية بدلًا من الإملاءات الأمنية، وهو ما قد يغيّر قواعد اللعبة في المنطقة.

 

إعلان تسوية بين تايلاند وكمبوديا

 

على هامش قمة «آسيان» في كوالالمبور، وقّعت تايلاند وكمبوديا إعلانًا مشتركًا لتسوية النزاع الحدودي الذي اندلع في مايو/ أيار 2025، وذلك بحضور دونالد ترامب ورئيس وزراء ماليزيا أنور إبراهيم. الإعلان يُعد ثمرة جهود وساطة دولية قادتها واشنطن وماليزيا والصين، بعد مواجهات عسكرية عنيفة بين البلدين في يوليو/ تموز. توقيع الاتفاق تأجل بسبب وفاة الملكة الأم لتايلاند، ويُنظر إليه كخطوة نحو تهدئة التوترات الإقليمية وتعزيز الاستقرار في جنوب شرق آسيا.

 

ختاماً جولة ترامب الآسيوية ليست مجرد سلسلة لقاءات دبلوماسية، بل محاولة لإعادة تشكيل النظام الدولي وفق رؤية أميركية جديدة. في نهاية المطاف، تكشف الجولة عن تحديات عميقة تواجه السياسة الخارجية الأميركية في عالم يتغير بسرعة، إذ لم تعد الهيمنة الأحادية كافية، ولا الدبلوماسية الفردية وحدها مجدية. فهل تكون هذه الجولة بداية لمرحلة جديدة من التوازنات؟ أم مجرد محطة عابرة في مسار متقلب؟

 

 

 

 

 

 

المصدر: الوفاق