في زمن تتراجع فيه القيم السياسية أمام المصالح، وتُختزل فيه القيادة إلى شعارات انتخابية فارغة، جاءت كاثرين كونولي لتعيد تعريف السياسة من جديد. فوزها الساحق في الانتخابات الرئاسية الإيرلندية في أكتوبر/ تشرين الثاني 2025 لم يكن مجرد حدث انتخابي، بل كان إعلانًا عن ولادة نمط جديد من القيادة، قيادة تستند إلى الضمير، إلى الإنصات، وإلى الدفاع عن القضايا الإنسانية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
كونولي، المحامية السابقة والنائبة البرلمانية منذ عام 2016، لم تكن مرشحة تقليدية. لم تأتِ من خلفية حزبية صارمة، ولم تتكئ على تحالفات انتخابية ضخمة، بل بنت حملتها على الصدق، على القيم، وعلى التاريخ. تاريخها الشخصي، وتاريخ بلادها، وتاريخ الشعوب التي تناضل من أجل العدالة، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني.
سيرة امرأة لا تُشبه السياسيين
ولدت «كاثرين مارتينا آن كونولي» في مدينة غالواي عام 1957، وتخرجت من جامعة ليدز في القانون، ثم عملت كمحامية في القضاء العالي، قبل أن تتجه إلى العمل السياسي المحلي. شغلت منصب عضو مجلس بلدية غالواي من عام 1999 حتى 2016، ثم انتُخبت نائبة عن دائرة غرب غالواي في البرلمان الإيرلندي، حيث أصبحت من أبرز الأصوات المعارضة للسياسات الحكومية، خاصةً في مجالات الإسكان، الصحة، والعدالة الاجتماعية.
لكن ما يميز كونولي ليس فقط مسيرتها المهنية، بل شخصيتها الصريحة، المستقلة، والإنسانية. لم تكن يومًا جزءًا من ماكينة حزبية، بل اختارت أن تكون مستقلة، رغم دعمها من أحزاب يسارية مثل «شين فين» وحزب الخضر. هذا الاستقلال منحها حرية التعبير، وجرأة المواجهة، وصدق الموقف.
انتصار غير مسبوق في تاريخ إيرلندا الحديث
في 25 أكتوبر/ تشرين الثاني 2025، فازت كونولي بنسبة 63.36% من الأصوات، متفوقة بفارق كبير على منافستها الوسطية هيذر همفريز التي حصلت على 29.46% فقط. هذه النتيجة لم تكن متوقعة، خاصةً في ظل تراجع نسبة المشاركة إلى 45.83%، وإلغاء أكثر من 213 ألف ورقة اقتراع، بعضها حمل رسائل احتجاجية مثل “لا ديموقراطية” أو شعارات مناهضة للهجرة.
لكن رغم هذا السياق المعقد، استطاعت كونولي أن تلامس وجدان الناس، خاصةً الشباب، الذين وجدوا فيها صوتًا حقيقيًا، صادقًا، ومختلفًا. في خطابها بعد الفوز، قالت: «سأكون رئيسة للجميع، لمن صوّت لي، ولمن لم يفعل، وحتى لمن أبطل صوته. سأكون رئيسة تستمع وتتحدث، وسنصوغ معاً جمهورية جديدة تُقدّر الجميع».
دعمها لفلسطين؛ موقف أخلاقي يتجاوز السياسة
من أبرز ملامح كونولي السياسية هو دعمها الصريح للقضية الفلسطينية. في وقت تتردد فيه كثير من الحكومات الغربية في اتخاذ مواقف واضحة، كانت كونولي من القلائل الذين أدانوا الانتهاكات الصهيونية بحق الفلسطينيين دون مواربة، ودعوا إلى الاعتراف الكامل بدولة فلسطين في البرلمان الإيرلندي، وشاركوا في فعاليات تضامن مع غزة والضفة الغربية.
في مقابلة لها مع قناة CNN، قالت إن قضية غزة كانت «على رأس قائمة اهتمامات الناخبين»، وإنها طُرحت أكثر من أي قضية أخرى، بما في ذلك الوحدة الإيرلندية. هذا التصريح يعكس مدى حضور القضية الفلسطينية في وجدان كونولي، وفي وجدان الشعب الإيرلندي الذي يرى في فلسطين مرآة لتاريخه الاستعماري.
كما طالبت بفرض عقوبات على كيان العدو الصهيوني بسبب سياساتها العنصرية، ووصفت ما يحدث في الأراضي المحتلة بأنه «فصل عنصري ممنهج»، داعية إلى مقاطعة الشركات التي تتعامل مع المستوطنات، وإلى دعم المبادرات الشعبية التي تفضح الانتهاكات الصهيونية.
مواقفها؛ الحياد، السلام، والعدالة
كونولي ليست فقط مؤيدة لفلسطين، بل هي أيضًا من أشد المدافعين عن الحياد العسكري لإيرلندا، وترفض بشدة زيادة الإنفاق الدفاعي أو الانخراط في تحالفات عسكرية مثل الناتو. تعتبر أن إيرلندا يجب أن تكون صوتًا للسلام، لا للحرب، وأن تجربتها التاريخية مع الاستعمار تمنحها مسؤولية أخلاقية في الدفاع عن الشعوب المضطهدة.
كما انتقدت السياسات الدفاعية للاتحاد الأوروبي، واعتبرت أن تعزيز التسلح لا يخدم السلام، بل يعمّق النزاعات. هذا الموقف جعلها في مواجهة مباشرة مع الحكومة التي يقودها حزبا «فيانا فيل» و«فاين غايل»، لكنها لم تتراجع، بل استمرت في الدفاع عن رؤيتها، حتى عندما كانت وحيدة.
علاقتها بترامب.. تحفظات لا عداء شخصي
رغم أن منصب رئيس إيرلندا لا يتطلب تفاعلاً مباشراً مع ترامب، فإن كاثرين كونولي لم تتردد في التعبير عن تحفظاتها تجاه السياسات التي يمثلها. خلال حملتها الانتخابية، سُئلت عن موقفها من لقاء محتمل معه، فأجابت بصراحة لصحيفة Newsweek: «إذا كان مجرد لقاء تعارف، فسأقوم به، لكنني لن أشارك في تبييض السياسات التي أعارضها». هذا التصريح يعكس نهجها الأخلاقي في التعامل مع القادة الدوليين، حيث تميز بين البروتوكول الدبلوماسي والمواقف المبدئية. كونولي لم تسعَ إلى خلق مواجهة شخصية مع ترامب، لكنها رفضت أن تكون جزءًا من مشهد سياسي يُغض الطرف عن قضايا مثل العدالة المناخية، حقوق الإنسان، أو الحرب على غزة، وهي ملفات لطالما انتقدت فيها السياسات الأمريكية. موقفها هذا أكسبها احترامًا واسعًا بين الناخبين الذين رأوا فيها صوتًا مستقلاً لا يخضع للإملاءات الدولية، بل يعبّر عن ضمير شعبي حقيقي.
المشاركة في حملات لدعم النقابات
في البرلمان، كانت كونولي من أبرز المنتقدين لسياسات الحكومة في مجال الإسكان، خاصة تلك التي أدت إلى ارتفاع أسعار الإيجارات، وتفاقم أزمة المشردين. دعت إلى تدخل الدولة لضمان السكن للجميع، ورفضت خصخصة الخدمات الصحية، معتبرة أن الصحة حق، لا امتياز.
كما دافعت عن حقوق العمال، وشاركت في حملات لدعم النقابات، ورفضت قوانين العمل التي تقلّص من حقوق الموظفين. في إحدى جلسات البرلمان، قالت: «لا يمكن أن نبني جمهورية عادلة إذا كان العامل لا يشعر بالأمان، ولا يجد سقفًا يأويه، ولا يحصل على علاج مجاني».
أولوياتها القادمة
من أبرز محاور حملتها الانتخابية كانت العدالة المناخية، حيث اعتبرت أن أزمة المناخ ليست فقط بيئية، بل اجتماعية، تؤثر بشكل غير متساوٍ على الفئات الضعيفة. دعت إلى سياسات بيئية عادلة، وإلى دعم المجتمعات الريفية التي تعاني من آثار التغير المناخي.
كما دافعت عن اللغة الإيرلندية، باعتبارها ركناً أساسياً من الهوية الوطنية، ودعت إلى دعمها في التعليم والإعلام، معتبرةً أن فقدان اللغة هو فقدان للذات، وأن استعادتها هي استعادة للكرامة.
أنموذج جديد للقيادة
ردود الفعل على فوز كاثرين كونولي بالرئاسة الإيرلندية جاءت متباينة، بين ترحيب شعبي واسع وقلق رسمي متحفظ. فالشباب، الذين شعروا بأن صوتهم كان مهمشًا لسنوات، وجدوا في كونولي نموذجًا جديدًا للقيادة، صادقًا وقريبًا منهم. أما بعض الأوساط الرسمية، فقد عبّرت عن تحفظات تجاه مواقفها المستقلة، خاصةً في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، إذ تخشى أن تؤدي رؤيتها غير التقليدية إلى إرباك التوازنات الدبلوماسية القائمة. ومع ذلك، حتى منافستها هيذر همفريز أقرّت بشرعية فوزها، وقالت عبر التلفزيون العام: «ستكون كاثرين رئيسة لنا جميعاً، وستكون رئيستي».
رئيسة الأمل في زمن الأزمات
فوز كونولي لم يكن مجرد حدث انتخابي، بل لحظة فارقة في تاريخ إيرلندا السياسي. لقد أعادت تعريف معنى القيادة، وأثبتت أن السياسة يمكن أن تكون أخلاقية، وأن الدفاع عن القضايا الإنسانية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ليس ترفًا بل واجبًا.
ما يميز كونولي هو قربها من الناس. لم تكن رئيسة تعيش في برج عاجي، بل امرأة تمشي بين المواطنين، تصغي لهم، وتشاركهم تفاصيل الحياة اليومية. مشاهدها وهي تلعب كرة القدم في الحدائق العامة، أو تتبادل الحديث مع الشباب في المقاهي، لم تكن دعاية انتخابية، بل انعكاسًا لطبيعتها الإنسانية. تعاملت مع المواطنين كأفراد يستحقون الاحترام، لا كأرقام انتخابية، ولهذا حين قالت: “سأكون رئيسة تستمع وتتأمل، وتتحدث حين تقتضي الضرورة”، لم يكن وعدًا سياسيًا، بل امتدادًا لسلوكها اليومي.
هذا القرب لم يكن مجرد أسلوب، بل فلسفة حياة. كونولي، التي عملت طبيبة نفسية ومحامية، حملت معها حسًا إنسانيًا عميقًا، جعلها تفهم القضايا الاجتماعية من الداخل، لا من تقارير رسمية. تعهدها بتخصيص جزء من راتبها لدعم المبادرات المجتمعية كان تعبيرًا عن قناعة بأن المنصب مسؤولية، لا امتياز.