مشاعرنا… أدلّة على الطريق

تشير العلوم النفسية الحديثة إلى أن المشاعر جزء طبيعي وصحي من التجربة الإنسانية، وأن ما نعدّه “مشاعر سلبية” كالخوف أو الحزن، ليس في جوهره سلبيًا. إنها إشارات نفسية تساعدنا على فهم عالمنا الداخلي

تشير العلوم النفسية الحديثة إلى أن المشاعر جزء طبيعي وصحي من التجربة الإنسانية، وأن ما نعدّه “مشاعر سلبية” كالخوف أو الحزن، ليس في جوهره سلبيًا. إنها إشارات نفسية تساعدنا على فهم عالمنا الداخلي. فمشاعر القلق، مثلًا، قد تدفعنا للاستعداد الأفضل، والخوف قد يحمينا من المخاطر. لذلك، لم يعد مقبولًا في النظريات المعاصرة تصنيف المشاعر ضمن ثنائيات ضيّقة كـ”سلبية” و”إيجابية”.

 

التحدي الحقيقي لا يكمن في نوع المشاعر، بل في طريقة التعامل معها. فالآيتان 9 و10 من سورة الشمس (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) تحملان إشارة ضمنية إلى كيفية التعاطي مع أنفسنا، وما يخالجها من أفكار ومشاعر وعواطف، وتأكيدًا للمآلات التي يمكن أن تؤول إليها، فزكاة أنفسنا ونموها إن أفلحنا في فهمها وقراءة رسائلها، والخيبة والفشل مآل الغفلة عن تلك الرسائل أو محاولة إنكارها أو إخفائها، فـ”دسّاها” من “الدّسّ”، أي الإخفاء والإدخال في الشيء خفية.

 

يحاول الكثير من الناس، حين يواجهون مشاعر مؤلمة وغير مريحة، الهروب منها؛ إما بإنكارها ونفي وجودها، أو بتجاهلها، وفي كلتا الحالتين تتعمّق المشاعر بصورة أكبر، وقد تتحوّل إلى أزمات نفسية عميقة تحشرنا بين قضبان سجن مليء بالوهم، خصوصًا حين يتم الربط بين مشاعرنا وهويتنا الأخلاقية: “أنا أشعر بالحسد، إذن أنا إنسان سيئ”، وهي فكرة عقلية لا يمكن التعايش معها، لأنها تناقض الصورة المثالية التي يرغب أي شخص في تمثيلها عن نفسه: أنه إنسان محبّ للآخرين، يسعى دائمًا لفعل الخير وإسعاد الجميع.

 

لفهم مشاعرنا وتعزيز قدرتنا على إدارتها وتحسين تأثيرها على أفكارنا وسلوكياتنا، علينا أولًا الانتباه لها، والسماح لها بالمرور بلا أحكام، فمشاعرنا، مهما كانت سلبيتها بالنسبة لنا، لا تعني أننا أناس غير جيّدين، بقدر ما تعني أنها مشاعر ظهرت في سياق معين، وتحت تأثير ضغوط معينة، لكنها تحمل رسائل مهمّة عن عالمنا الداخلي، وعلينا أن نحسن قراءتها لفهم أنفسنا وتطويرها نحو الأفضل.

 

إذن، الهدوء والانتباه هو أقصى ما تحتاجه في فورة أي مشاعر تنتابك، وكلّما ازداد الهدوء والانتباه، ازدادت قدرتنا على الفهم والإدراك، وبالتالي أن نقود نحن مشاعرنا، لا أن تقودنا هي إلى ما تريد. ولا ننسى بأن التحرّر من الخوف مفتاح مهم يساعدنا على فهم مشاعرنا والاعتراف بها. فالخوف من الألم أحيانًا يجبرنا على الإنكار أو الهروب، لأن المواجهة تعني ألمًا علينا مواجهته.

 

يقول أحدهم، في محاولته تحليل مشاعره الداخلية، وبعد أن قرر بشجاعة مواجهة مشاعره مهما كانت مؤلمة:

“لم أكن أفهم ما الذي يشعرني بالانزعاج حين رؤية أصدقائي يتفوقون، إلا حين قررت أن أضع مشاعري تحت المجهر للفحص، بعد أن كنت أتجاهلها وأحاول نسيانها هربًا من المعاناة والألم، ولكن بلا جدوى. كانت مشاعري تزداد سطوتها كلما تجاهلتها، وألمي يزداد عمقًا كلما رأيتهم يتميّزون في إحدى الجوانب التي كنت أرغب التميّز فيها“.

 

ويتابع قائلًا: “منحتني هذه التجربة، التي قررت فيها أن أفهم مشاعري وأواجه آلامي، فهمًا لطبيعتي النفسية وأسباب عجزها. اكتشفت أني أحمل نظرة متدنية عن نفسي وقدراتي، مما دفعني للتكاسل. فأنا شخص متدني القدرات والمهارات بحسب ما حكمتُ به على نفسي من تجارب ضيقة، كنت أعشق دوائر الراحة التي منحتني إياها هذه المشاعر، كان يعجبني أن أنظر لنفسي بأني ضحية لا حول لها ولا قوة، لأنها تبرّر لي تكاسلي وإهمالي لتطوير قدراتي. فمشاعري تجاه تفوّق أصدقائي ما هو إلا كاشف لكذبة صدّقتها عن نفسي، وقد آن الأوان لمواجهتها وتصحيحها!“.

 

هذه التجربة تمثّل لحظة وعي ومواجهة حقيقية (بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)، وذلك حين نسمح لأنفسنا بسماع رسائل مشاعرنا بلا خوف أو محاكمة، هنا، قد تخلق هذه التجربة لحظة تحوّل جذري، لحظة كشف عميق، تجعلنا نكون أقرب لأنفسنا، فنفهم دوافعها ورغباتها، بل وحيلها الدفاعية أحيانًا، حين تريد خداعنا عبر تخديرنا بالبقاء في المكمن المريح الذي يجعلنا مستسلمين عاجزين. لكن المفارقة أن هذا الواقع ما هو إلا وهم من نسج خيالنا وأفكارنا الخاطئة عن أنفسنا، وتغيير هذا الواقع ليس سوى رهن بذل القليل من الجهد، لنكتشف طاقة نحملها في أعماقنا، هي فوق تصورنا، فقط تحتاج أن نفسح لها المجال للانطلاق.

 

في عالم معقّد، متسارع، مليء بالضجيج، جلّ ما نحتاجه اليوم هو وقت مستقطع يوميًا نبتعد فيه عن الضجيج الخارجي الذي يُضعف قدرتنا على معرفة أنفسنا، فنعيش لحظات صمت عميق وتأمل نحاول فيها الإصغاء لعالمنا الداخلي وما يجول فيه من مشاعر وأفكار متداخلة. فمشاعرنا أو أفكارنا ما هي إلا أدلّة إرشاد على الطريق، وليست إشارات للهروب أو التجاهل، فكلما تعلّمنا أن نحسن فهم تلك المشاعر وإدارتها، كلّما أصبحت رحلة الحياة أكثر متعة، لأن في كل تجربة نواجهها، محمّلة بسيل من المشاعر، عتبة جديدة من عتبات اكتشاف أنفسنا، وإدراك رسالتنا ومغزى وجودنا، ومن ثم التحوّل لحالة أفضل نزداد فيها قوة وفهمًا، ليس لأنفسنا فقط، بل للعالم من حولنا.

 

المصدر: وكالات