نيويورك على حافة مواجهة تاريخية

ممداني يتقدّم… وترامب يتوعّد والخريطة الأمريكية تتغيّر

 تهديد ترامب بوقف تمويل مدينة نيويورك يعكس حجم التوتر السياسي المحيط بانتخابات عمدتها، ويؤكد أن فوز ممداني يُنظر إليه كتحوّل رمزي في ميزان القوى داخل المشهد السياسي الأميركي

في قلب التحولات العميقة التي تعصف بالمشهد السياسي الأميركي، تتجه الأنظار إلى نيويورك، حيث تتحوّل الانتخابات البلدية إلى مواجهة مصيرية بين قوى التغيير الجذري ومراكز النفوذ التقليدية. ترشّح زهران ممداني لمنصب عمدة المدينة لم يكن مجرد خطوة انتخابية، بل يُمثل انطلاقة تيار جديد يسعى لإعادة البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي حكمت المدينة لعقود. ممداني، النائب الديمقراطي الاشتراكي، المسلم، المهاجر، والمثقف، لا يُعبّر فقط عن صوت المهمّشين، بل يُجسّد مشروعاً سياسياً يطمح لإعادة تعريف الحكم المحلي في واحدة من أكثر مدن العالم تأثيراً، ويضع المدينة أمام اختبار تاريخي بين الاستمرار في نهج النيوليبرالية أو الانحياز لعدالة اجتماعية شاملة.

 

من الهامش إلى مركز القرار

 

ينحدر زهران ممداني من خلفية متعددة الثقافات، فهو إبن لأستاذ جامعي أوغندي الأصل وأم هندية، نشأ في بيئة مشبعة بالوعي السياسي والنقد الاجتماعي. تلقّى تعليمه في كلية بودوين، حيث أسس فرعاً لمنظمة «طلاب من أجل العدالة في فلسطين»، ما شكّل نقطة انطلاق لمسيرته السياسية التي اتسمت منذ بدايتها بالجرأة والمواقف غير المهادنة. انضم لاحقاً إلى منظمة «الاشتراكيين الديمقراطيين في أميركا»، وبدأ يشق طريقه داخل الحزب الديمقراطي، مستفيداً من موجة التقدميين التي اجتاحت الحزب بعد صعود شخصيات مثل «ألكساندريا أوكاسيو كورتيز» و«بيرني ساندرز».

 

حملة انتخابية غير تقليدية

 

يطرح زهران ممداني برنامجاً انتخابياً طموحاً يتحدى المنظومة النيوليبرالية التي حكمت نيويورك لعقود، مستلهماً النموذج الاسكندنافي في العدالة الاجتماعية وتوزيع الموارد. يهدف برنامجه إلى تحسين جودة الحياة اليومية لسكان المدينة، خصوصاً الفئات المهمّشة والطبقة العاملة، عبر سلسلة من السياسات الجذرية.

 

يتعهد ممداني بتوفير وسائل نقل مجانية لأكثر من مليون راكب يومياً عبر الحافلات العامة، وتقديم رعاية شاملة للأطفال من عمر ستة أسابيع حتى خمس سنوات لتخفيف العبء عن الأُسر العاملة. كما يقترح تجميد الإيجارات في الشقق المستقرة لحماية المستأجرين من تقلبات السوق العقاري، وإنشاء محالّ بقالة تديرها الدولة لضمان وصول الغذاء بأسعار عادلة إلى الأحياء المحرومة.

 

على صعيد الأجور، يسعى إلى رفع الحد الأدنى إلى 30 دولاراً في الساعة، ويتضمن برنامجه خطة لبناء 200 ألف وحدة سكنية جديدة خلال عشر سنوات بتكلفة تصل إلى 100 مليار دولار. كما يعتزم إنشاء إدارة جديدة لسلامة المجتمع تتولى التعامل مع أزمات الصحة العقلية ودعم المشرّدين، بعيداً عن المقاربات الأمنية التقليدية.

 

تُقدّر كلفة هذه السياسات بنحو 10 مليارات دولار سنوياً، ويعتزم تمويلها عبر زيادة الضرائب على الشركات الكبرى وأصحاب الدخول المرتفعة، في قطيعة واضحة مع السياسات التقشفية التي سادت المدينة لعقود.

 

التفاعل الشعبي.. من الاحتجاج إلى المشاركة

 

ما يميز حملة ممداني هو قدرتها على تحويل الاحتجاج إلى مشاركة سياسية. فقد نجح في تعبئة آلاف من الشباب والمهاجرين والعمال، الذين كانوا يشعرون بأنهم غير ممثلين في النظام السياسي. استخدم وسائل التواصل الاجتماعي بذكاء، ونظّم فعاليات شعبية في الأحياء المهمّشة، وتحدث بلغة الناس، لا بلغة النخبة.

 

هذا التفاعل الشعبي لا يعكس فقط دعم ممداني، بل يكشف عن تعطّش جماعي للتغيير، وعن رغبة في إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة. فبدلاً من الاكتفاء بالاحتجاج، بات الناس يشاركون في صنع القرار، ويطالبون بسياسات ملموسة تُحسّن حياتهم اليومية.

 

والجدير ذكره أن مدينة نيويورك ليست مجرد مركز حضري ضخم، بل هي مختبر سياسي واجتماعي يعكس التناقضات البنيوية في المجتمع الأميركي. فهي تحتضن نخبة مالية عالمية، وتضم في الوقت نفسه ملايين من العمال والمهاجرين الذين يعيشون على هامش الاقتصاد الرسمي. هذا التباين يجعلها ساحة مثالية لصراع الأفكار، حيث تتقاطع قضايا الهوية، والعدالة، والاقتصاد، والهجرة، والسياسة الخارجية.

 

الإسلاموفوبيا كسلاح سياسي

 

منذ إعلان ترشحه، واجه ممداني حملة شرسة من اليمين الأميركي، اتخذت طابعاً شخصياً وعنصرياً. وُصِف بأنه «متعاطف مع الإرهاب»، وطالب البعض بترحيله، في مشهد يعيد إلى الأذهان الحملات المعادية للمسلمين بعد أحداث 11 سبتمبر /أيلول. شارك في هذه الحملة شخصيات بارزة من إدارة ترامب، مثل ستيفن ميلر، الذي اعتبر أن نيويورك أصبحت نموذجاً لفشل السياسات الأميركية في ضبط الهجرة.

 

كما أطلقت النائبة إليز ستيفانيك حملة جمع تبرعات تصف ممداني بأنه «متعاطف مع حماس»، بينما شبّه نجل ترامب فوزه بما حدث في هجمات 11 سبتمبر/ أيلول، معتبراً أن المدينة «سقطت». هذه التصريحات لم تكن مجرد ردود فعل غاضبة، بل جزء من استراتيجية ممنهجة لتشويه صورة المرشح وربطه بالإرهاب، في محاولة لإثارة الخوف وتحفيز القاعدة المحافظة.

 

المال السياسي يدخل المعركة

 

في مواجهة صعود ممداني، تحركت مراكز النفوذ الاقتصادي لضخّ أموال طائلة في لجان سياسية تهدف إلى وقف حملته. فقد تبرّع بيل أكمان، مدير صندوق التحوط، بمليون دولار لمنظمة «Defend NYC»، فيما قدّم لوري تيش ودانييل لوب مئات الآلاف للجنة «Fix The City». هذه التدخلات تؤكد أن معركة ممداني ليست فقط ضد خصوم سياسيين، بل ضد شبكة مصالح اقتصادية تحاول الحفاظ على الوضع القائم.

 

اللافت أن هذه التبرعات جاءت في توقيت حرج، قبل أيام من فتح مراكز الاقتراع، ما يعكس حالة الذعر التي أصابت النخبة الاقتصادية من احتمال فوز مرشح يهدد امتيازاتهم.

 

ترامب يلوّح بقطع التمويل عن نيويورك في حال فوز ممداني

 

في تصعيد لافت للخطاب السياسي قبيل الانتخابات البلدية في نيويورك، هدّد ترامب بوقف التمويل الاتحادي عن المدينة في حال فوز المرشح الديمقراطي التقدمي زهران ممداني بمنصب العمدة. وفي منشور نشره على منصته «تروث سوشيال»، وصف ترامب ممداني بأنه «شيوعي»، معتبراً أن انتخابه سيقود المدينة إلى «فرصة صفر للنجاح أو حتى البقاء»، على حد تعبيره.

 

وأكد ترامب أنه في حال فوز ممداني، فإنه «من غير المرجح أن يقدّم أي تمويل اتحادي للمدينة، باستثناء الحد الأدنى الذي يفرضه القانون»، في تهديد مباشر يُظهر حجم القلق الذي يثيره صعود ممداني في أوساط اليمين الأميركي.

 

هذا التهديد يعكس حجم التوتر السياسي المحيط بانتخابات نيويورك، ويؤكد أن فوز ممداني لا يُنظر إليه كمجرد انتصار محلي، بل كتحوّل رمزي في ميزان القوى داخل المشهد السياسي الأميركي.

 

كذلك على الرغم من أن ممداني يخوض الانتخابات تحت راية الحزب الديمقراطي، فإن قيادات الحزب بدت مترددة في دعمه. فقد اكتفى باراك أوباما باتصال هاتفي دون إعلان تأييد رسمي، وقدّمت «كامالا هاريس» دعماً محدوداً، بينما بقي «تشاك شومر» على الحياد. وحده «حكيم جيفريز» أعلن دعمه في اللحظة الأخيرة، فيما اعتبر «بيرني ساندرز» أن فوز ممداني قد يفتح الباب أمام مرشحين تقدميين آخرين على مستوى البلاد.

 

تقدّم رغم العاصفة

 

رغم الحملة الشرسة، تشير استطلاعات الرأي إلى تقدّم ممداني على منافسيه. فقد حصل على 40% من الأصوات، مقابل 34% لأندرو كومو، و24% لكيرتس سليوا. هذه الأرقام تعكس قدرة ممداني على حشد دعم شعبي واسع، خصوصاً بين الشباب والمهاجرين والطبقة العاملة، الذين يرون فيه صوتاً يعبر عنهم في مواجهة النخبة السياسية والاقتصادية.

 

ويتميّز ممداني بقدرته على التواصل بلغات متعددة، بما فيها العربية، ما يساعده على الوصول إلى شرائح من سكان نيويورك غالباً ما تشعر بأنها مستبعدة من الحملات الانتخابية. هذا البعد الثقافي يمنحه ميزة فريدة في مدينة تتحدث فيها أكثر من 200 لغة، ويجعل حملته أكثر شمولاً وتنوعاً.

 

فلسطين في قلب المعركة

 

مواقف ممداني من القضية الفلسطينية شكّلت محوراً أساسياً في الهجوم عليه. فقد شارك في احتجاجات ضد كيان العدو، وصرّح بأن الطريق إلى السلام يبدأ بتفكيك نظام الفصل العنصري، وإنهاء الاحتلال، واعتبر أن كيان العدو «على حافة الإبادة الجماعية». كما تعهّد بعدم إرسال الشرطة لقمع التظاهرات المؤيدة لفلسطين، بل ذهب إلى حد القول إنه سيعتقل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إذا زار نيويورك.

 

هذه التصريحات أثارت غضباً واسعاً في الأوساط السياسية والإعلامية، ودفعت صحيفة «وول ستريت جورنال» إلى وصف قاعدته بأنها «ناشطون ضد كيان العدو»، بينما اعتبره بيرني ساندرز «أسوأ كابوس لترامب».

 

ختاماً زهران ممداني ليس مجرد مرشح، بل هو ظاهرة سياسية وثقافية واجتماعية. إنه تجسيد لتحوّل عميق في المجتمع الأميركي، حيث تتقاطع قضايا الهوية والعدالة والاقتصاد والسياسة الخارجية في شخص واحد. لقد تحدّى الخطاب السائد، وكسر الحواجز، وأعاد الأمل إلى فئات كانت تشعر بأنها غير مرئية.

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص