في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية

فنزويلا تعود إلى واجهة التصعيد الأميركي

فنزويلا لم تكن مجرد دولة نفطية فقط ، بل تحولت إلى رمز للمقاومة في أميركا اللاتينية، ما جعلها هدفًا دائمًا للأطماع والضغوط الأميركية والتمهيد لتولية عملاء موالين لها يسهّلون نهب ثرواتها من النفط والذهب والمعادن النادرة

في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية في أميركا اللاتينية، تعود فنزويلا إلى واجهة الصراع بين واشنطن والدول المناهضة للهيمنة الغربية. هذه المرة، لا يقتصر الأمر على العقوبات الاقتصادية أو الدعم السياسي للمعارضة، بل يتخذ منحى أكثر خطورة مع حشد عسكري أميركي غير مسبوق قبالة السواحل الفنزويلية، وتصريحات مباشرة من  دونالد ترامب تشير إلى قرب نهاية حكومة نيكولاس مادورو.
ففي مقابلة صحفية، لم يتردّد ترامب في الإجابة عن سؤال حول مستقبل مادورو، قائلاً: «أعتقد ذلك، نعم»، في إشارة إلى أن أيامه باتت معدودة. ووفقاً للصحف الأميركية، فإن ترامب يتعرّض لضغوط من مستشاريه للمبادرة إلى تنفيذ عمل عسكري ضد أهداف داخل فنزويلا، سواء كانت مواقع مزعومة لعصابات المخدّرات، أو مراكز مهمّة للقوات الموالية لمادورو، أو حتى الاستيلاء بالقوّة على حقول النفط، بما يمهّد لتولية عملاء موالين لواشنطن يسهّلون نهب ثروات البلاد من النفط والذهب والمعادن النادرة. ورغم هذا الضغط، تشير مصادر مقرّبة من ترامب إلى تردّده في الموافقة على عمليات قد تعرّض القوات الأميركية للخطر أو تتحوّل إلى فشل مُحرِج. وعندما سُئل عمّا إذا كانت الولايات المتحدة تتّجه إلى حرب مع فنزويلا، أجاب: «أشكّ في ذلك. لا أعتقد ذلك. لكنهم يعاملوننا بشكل سيّئ للغاية، ليس فقط في ما يتعلّق بالمخدّرات»، مكرّراً مزاعمه بأن مادورو أَرسل «خرّيجي السجون والمصحّات العقلية وأعضاء عصابة ترين دي أراغوا» إلى الولايات المتحدة.
جذور الصراع؛ من تشافيز إلى مادورو
منذ وصول هوغو تشافيز إلى السلطة عام 1999، دخلت فنزويلا في مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة، تمحورت حول رفض الهيمنة الأميركية، وتبني خطاب اشتراكي بوليفاري، وتحالفات استراتيجية مع خصوم واشنطن مثل روسيا، الصين، و….. هذا التوجه لم يتغير مع خلفه نيكولاس مادورو، بل تعمّق في ظل العقوبات الأميركية، ومحاولات الانقلاب، والاعتراف بخصومه السياسيين كرؤساء شرعيين.  فنزويلا لم تكن مجرد دولة نفطية فقط ، بل تحولت إلى رمز للمقاومة في أميركا اللاتينية، ما جعلها هدفًا دائمًا للأطماع والضغوط الأميركية.
النفط والذهب.. الجائزة الكبرى
تملك فنزويلا أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، إلى جانب ثروات هائلة من الذهب والمعادن النادرة. هذه الثروات، في ظل الأزمة الاقتصادية الأميركية وارتفاع أسعار الطاقة، باتت تمثل «الجائزة الكبرى» التي يسعى تيار روبيو – ميلر للاستحواذ عليها. وقد كشفت مصادر أميركية أن  ترامب «يركّز بشدّة» على احتياطيات النفط الهائلة في فنزويلا، والتي تُعدّ الأكبر في العالم. واللافت أن مادورو حاول تجنُّب هذه المواجهة، من خلال تقديم «تنازلات» لواشنطن، شملت «حصّة مهمّة في ثروة فنزويلا النفطية والمعدنية»، مع وعود بتحويل الصادرات بعيداً من الصين وروسيا. لكنّ ترامب، الذي يرى الجائزة الكبرى في متناول يده، رفض العرض الفنزويلي في بداية أكتوبر / تشرين الأول الماضي، وسرّع من وتيرة الحشد العسكري، مانحاً الاستخبارات المركزية الأميركية الإذن بتنفيذ «عمليات سرّية» داخل فنزويلا، وهو أمر تحدّث عنه علناً، في كسر غير مسبوق لبروتوكولات السرّية.
تيار روبيو – ميلر.. كبح تمدد روسيا والصين
يقود تيار التدخل الأكثر عدوانية ماركو روبيو، الذي يضطلع أيضًا بمهام وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي بالإنابة، وستيفن ميلر، نائب رئيس أركان الجيش ومستشار الأمن الداخلي. يرى هذا التيار أن إسقاط مادورو ضرورة استراتيجية، ليس فقط لتغيير الحكومة بل لإعادة رسم خريطة النفوذ في أميركا اللاتينية، وكبح تمدد روسيا والصين، وتوجيه رسالة ردع إلى كوبا وبوليفيا ونيكاراغوا. وقد صرّح روبيو وميلر في أحاديث خاصة بأنهم يعتبرون مادورو «عقبة يجب إزالتها»، فيما يضغطون على ترامب للموافقة على عمليات عسكرية محدودة أو سرية.
أدوات الضغط الأميركية من العقوبات إلى الحشد العسكري
بدأت واشنطن بسلسلة من العقوبات الاقتصادية الخانقة، استهدفت قطاع النفط، والبنك المركزي، وشخصيات حكومية، ما أدى إلى انهيار اقتصادي حاد، وتفاقم الأزمة الإنسانية. رافقت العقوبات حملة إعلامية مكثفة لتشويه صورة الدولة وشيطنتها كـدولة مخدرات، مع دعم واسع للمعارضة، وتضخيم أدوارها. بلغ التصعيد ذروته مع نشر حاملات طائرات ومدمرات وغواصات نووية في الكاريبي، تحت غطاء «مكافحة المخدرات»، في مشهد يعيد إلى الأذهان سيناريوهات غزو بنما أو العراق. وقد نفذت القوات الأميركية 16 غارة جوية أسفرت عن مقتل 67 شخصًا، في عمليات وصفت بأنها «قتل خارج نطاق القانون»، وانتهاك صارخ للقانون الدولي، خصوصًا أن فنزويلا لا تلعب دورًا محوريًا في تجارة المخدرات العالمية.
الرد الفنزويلي؛ تحصين الجبهة الداخلية
وفي مواجهة هذا العداء الصريح، لم يكن أمام حكومة مادورو سوى البدء بتحصين الجبهة الداخلية، وذلك بتكثيف إجراءاتها الأمنية، ونشر القوات الشعبية المعروفة بـ«الكوليكتيفوس»، وهي مجموعات شبه عسكرية موالية للدولة تتولى مهامّ أمنية وميدانية في الأحياء الشعبية، وتُستخدم كخط دفاع أول ضد أي اختراق داخلي أو تحرك معارض. وإلى جانب هذه القوات، تقف «الوحدات البوليفارية»، وهي تشكيلات احتياط مدنية مسلّحة، لا يقلّ تعدادها عن مليون شخص. ورغم أنهم قد لا يكونون فعّالين في مواجهة مباشرة مع قوات نظامية، إلا أنهم يمثلون طبقة دفاعية إضافية مُصمَّمة لمقاومة أيّ احتلال، وتحويله إلى حرب استنزاف طويلة الأمد. كما نقلت تقارير صحافية من كاراكاس أنباء عن اعتقال العديد من المعارضين المؤيدين للولايات المتحدة، في خطوة تهدف إلى قطع الطريق على أي اختراق داخلي أو دعم لانقلاب محتمل. هذه الإجراءات تعكس إدراك  الدولة الفنزويلية لحجم التهديد، واستعدادها لتحويل أي مواجهة إلى صراع غير تقليدي. تمتلك فنزويلا ترسانة أسلحة تُعدّ الأهمّ في أميركا اللاتينية، تشمل صواريخ، وطائرات «سوخوي» روسية، ودبابات صينية، إلا أن الخبراء يشكّكون في فعاليتها في حرب تقليدية ضدّ الولايات المتحدة، بفعل سوء الصيانة ونقص التدريب. لكنّ مادورو لا يراهن على حرب تقليدية، بل استعدّ، على مدى سنوات، لما يسمّيه «الحرب غير المتكافئة»، منطلقاً من أن القوّة الحقيقية لردع الغزو لا تكمن في الجيش النظامي، الذي يبلغ قوامه نحو 150 ألف جندي، بل في القوات الرديفة، التي تستطيع تحويل أيّ غزو أو محاولة انقلابية إلى حرب عصابات، تستنزف الخصم وتمنعه من تحقيق أهدافه السياسية والعسكرية.
واشنطن في مواجهة القانون الدولي 
تصطدم أي عملية عسكرية أميركية بمبدأ السيادة الوطنية، وميثاق الأمم المتحدة، الذي يحظر التدخل في شؤون الدول الداخلية. وقد صنّفت وزارة العدل الأميركية مادورو وكبار قادته الأمنيين كـ«قادة مجموعة إرهابية مخدراتية»، في محاولة لتحويله إلى «هدف مشروع»، ما يفتح الباب أمام محاولات اغتيال صريحة  تستهدف رئيسًا منتخبًا لدولة ذات سيادة. هذا التصنيف، وإن كان سياسيًا، إلا أنه يثير جدلًا قانونيًا واسعًا، ويضع واشنطن في مواجهة مع القانون الدولي، ويهدد بتفجير أزمة دبلوماسية مع حلفاء مادورو، خصوصًا روسيا والصين.
السيناريوهات المحتملة
السيناريو الأول يتمثل في تدخل محدود يستهدف منشآت عسكرية أو نفطية، تحت غطاء مكافحة المخدرات، وهو ما قد يُنفذ عبر ضربات جوية أو عمليات كوماندوس محددة، بهدف إضعاف البنية التحتية للدولة دون التورط في حرب شاملة. السيناريو الثاني هو تنفيذ عمليات سرية عبر وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)، تشمل اغتيالات، دعم مجموعات مسلحة معارضة، أو إثارة اضطرابات داخلية تؤدي إلى انهيار تدريجي للدولة أما السيناريو الثالث، فهو دعم انقلاب داخلي يقوده ضباط من الجيش الفنزويلي، وهو خيار لطالما راهنت عليه واشنطن، لكنه يظل محفوفًا بالمخاطر، نظرًا للتشابك العميق بين الدولة وطبقة الجنرالات، الذين يرتبطون بمصالح اقتصادية وأمنية مباشرة مع بقاء مادورو في السلطة. السيناريو الرابع، وهو الأكثر خطورة، يتمثل في غزو مباشر لفنزويلا، على غرار ما حدث في العراق أو بنما. ورغم أن هذا الخيار لا يزال مستبعدًا في ظل التردد الأميركي والمخاوف من التورط في مستنقع جديد، إلا أن الحشد العسكري المكثف، والتصريحات العلنية عن «العمليات السرية»، تشير إلى أن هذا السيناريو لم يُسحب تمامًا من الطاولة. في المقابل، تراهن كاراكاس على أن أي تدخل مباشر سيقابل بمقاومة شعبية وعسكرية شرسة، قد تُغرق المنطقة في فوضى طويلة الأمد.
مادورو يراهن على صمود الجبهة الداخلية
تدخل فنزويلا مرحلة جديدة من الصراع، تتجاوز العقوبات والحصار، نحو مواجهة مفتوحة قد تعيد تشكيل الخارطة الجيوسياسية في أميركا اللاتينية. وبينما تراهن واشنطن على إسقاط الدولة الفنزويلية عبر الضغط العسكري والسياسي والاقتصادي، يراهن مادورو على صمود الجبهة الداخلية، وتحويل أي غزو إلى مستنقع جديد للقوات الأميركية، مستفيدًا من خبرات الحرب غير المتكافئة، ومن شبكة تحالفات إقليمية ودولية لا تزال تدعمه. في ظل غياب توافق دولي، وتعدد المصالح بين القوى الكبرى، يبدو أن الصراع الفنزويلي الأميركي مرشح للاستمرار، في صورة أكثر تعقيدًا، وأشد خطورة. فالمواجهة لم تعد مجرد نزاع بين دولة ومعارضة، بل باتت ساحة اختبار لإرادات دولية متصارعة، تتقاطع فيها الجغرافيا مع الطاقة، والسيادة مع النفوذ، والواقع مع الطموح الإمبراطوري. وفي هذا السياق، تبقى فنزويلا عنوانًا لصراع أكبر، يتجاوز حدودها، ويعكس ملامح نظام عالمي جديد يتشكل على وقع الأزمات والانقسامات.
المصدر: الوفاق/ خاص

الاخبار ذات الصلة