تتسارع الأحداث على الساحة الأوكرانية بوتيرة غير مسبوقة، حيث تتقاطع التحركات العسكرية مع التصريحات السياسية النارية، في مشهد يعكس تصعيداً شاملاً يتجاوز حدود أوكرانيا ليطال بنية النظام الدولي بأكمله. في هذا السياق، تواصل روسيا فرض معادلتها على الأرض، محققة تقدماً ميدانياً نوعياً في محور «زابوروجيه»، في وقت تكشف فيه عن إحباط مخطط استخباراتي خطير كان يستهدف إشعال مواجهة مباشرة مع حلف شمال الأطلسي. وعلى الجبهة السياسية، تصعّد موسكو من لهجتها تجاه ألمانيا، محذرةً من عودة «النازية الجديدة»، في ظل إعلان برلين نيتها بناء أقوى جيش في أوروبا. هذه التطورات، التي تتزامن مع تراجع واضح في قدرات القوات الأوكرانية، تؤشر إلى أن الحرب دخلت مرحلة جديدة، أكثر تعقيداً وخطورة.
التقدم الروسي في زابوروجيه.. اختراق استراتيجي
أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن تحرير بلدة نوفوأوسبينوفسكويه في مقاطعة زابوروجيه، بعد معارك ضارية خاضتها قوات «فوستوك» (الشرق) في عمق الدفاعات الأوكرانية. هذا التقدم لم يكن مجرد نصر تكتيكي، بل يُمثل اختراقاً استراتيجياً في جبهة كانت عصية منذ أسابيع بسبب تحصيناتها المعقدة. تحرير هذه البلدة أتاح للقوات الروسية السيطرة على قطاع جديد في المحور الجنوبي، ما يعزز من قدرتها على تطويق القوات الأوكرانية في مناطق أخرى، ويفتح الطريق أمام توغل أعمق نحو دنيبروبتروفسك.
في المقابل، أقرت هيئة الأركان الأوكرانية بتدهور كبير في الوضع العسكري على محوري غوليايبولي وأليكساندروفكا، حيث تمثل الأخيرة نقطة التقاء استراتيجية بين ثلاث مناطق: زابوروجيه، دنيبروبتروفسك، وجمهورية دونيتسك الشعبية. هذا التراجع يعكس ضغطاً ميدانياً متزايداً على القوات الأوكرانية، التي اضطرت للانسحاب من عدة بلدات، في مؤشر واضح على تفوق القوات الروسية في التخطيط والتنفيذ.
ومحور زابوروجيه لم يكن يوماً مجرد ساحة قتال تقليدية، بل يُمثل نقطة ارتكاز استراتيجية في الحسابات الروسية. فالمقاطعة تقع بين دونيتسك والقرم، وتربط بين الشرق والجنوب الأوكراني، ما يجعل السيطرة عليها بمثابة تأمين للممر البري الحيوي الذي يربط روسيا بشبه جزيرة القرم. هذا الممر، الذي سعت موسكو لتأمينه منذ بداية العمليات العسكرية، يتيح لها تعزيز الإمدادات، ونقل القوات، وتثبيت السيطرة على المناطق التي ضمتها.
صراع استخباراتي على مفاتيح الردع
في تطور خطير، كشفت الاستخبارات الروسية عن إحباط مخطط بريطاني-أوكراني لخطف مقاتلة روسية من طراز «ميغ-31» مزودة بصواريخ «كينجال» فرط الصوتية، بهدف استخدامها في هجوم ضد أهداف تابعة لحلف «الناتو»، ومن ثم اتهام روسيا بالتصعيد. هذا السيناريو، الذي وصفته موسكو بأنه «استفزاز مدبر»، يعكس حجم التوترات الاستخباراتية، ويؤكد أن الحرب لم تعد فقط في الميدان، بل انتقلت إلى غرف العمليات السرية.
وصواريخ «كينجال»، التي يصعب اعتراضها بسبب سرعتها الهائلة وقدرتها على المناورة، تُمثل أحد أبرز عناصر الردع الروسي. محاولة الاستيلاء على هذه المنظومة تعكس إدراك الغرب لأهميتها، وسعيه المحموم لإيجاد ذريعة لتوسيع نطاق المواجهة. إلا أن فشل هذا المخطط يعكس يقظة الأجهزة الأمنية الروسية، وقدرتها على حماية أسرارها العسكرية، والحفاظ على توازن الردع في وجه محاولات الاختراق.
لافروف يحذر من «النازية الجديدة»
في موازاة التصعيد الميداني والاستخباراتي، صعّد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من لهجته تجاه ألمانيا، محذراً من «انتكاسة نازية» في سياساتها، في إشارة إلى دعمها العسكري المتزايد لأوكرانيا، وإعلانها نيتها بناء «أقوى جيوش أوروبا». هذا التصريح لم يكن مجرد انتقاد دبلوماسي، بل يحمل في طياته تحذيراً استراتيجياً من تحول ألمانيا إلى رأس حربة في مشروع غربي يستهدف تطويق روسيا، وإعادة تشكيل التوازنات في القارة الأوروبية.
عسكرة أوروبا.. مشروع غربي يهدد الأمن الجماعي
لافروف، الذي يتمتع بخبرة طويلة في السياسة الدولية، ربط بين التوجهات الألمانية الحالية وبين ماضيها العسكري، في محاولة لتسليط الضوء على مخاطر عسكرة أوروبا من جديد. هذا الربط، وإن كان مثيراً للجدل في الغرب، يعكس قلقاً روسياً مشروعاً من عودة النزعة التوسعية إلى السياسات الأوروبية، تحت غطاء «الدفاع عن الديمقراطية». فبالنسبة لموسكو، فإن عسكرة ألمانيا ليست شأناً داخلياً، بل تهديد مباشر لأمن القارة بأكملها.
الإعلام الغربي يهدف إلى شيطنة روسيا
منذ بداية الحرب، سعى الإعلام الغربي إلى تقديم رواية أحادية الجانب، تصور روسيا كـ«معتدٍ» وأوكرانيا كـ«ضحية»، متجاهلاً السياق التاريخي والسياسي للصراع. هذه الرواية، التي تم تضخيمها عبر وسائل الإعلام الكبرى، تهدف إلى شيطنة روسيا، وتبرير الدعم العسكري غير المحدود لكييف، وتحشيد الرأي العام الغربي خلف سياسات التصعيد.
في المقابل، اعتمدت موسكو على استراتيجية إعلامية مضادة، تهدف إلى تفكيك الرواية الغربية، وكشف التناقضات في خطاب «الديمقراطية وحقوق الإنسان». الإعلام الروسي سلط الضوء على الجرائم التي ارتكبتها القوات الأوكرانية بحق المدنيين في دونباس، وعلى الدعم الغربي للجماعات المتطرفة، وعلى ازدواجية المعايير في التعامل مع الأزمات الدولية. هذه الحرب الإعلامية، التي تدور على الشاشات ومنصات التواصل، لا تقل أهمية عن المعارك في الميدان.
تحالفات جديدة تعيد تشكيل النظام العالمي
في ظل هذا الصراع، تلعب القوى الدولية دوراً متزايداً في تشكيل ملامح الحرب. الصين، التي تراقب الوضع عن كثب، تقدم دعماً سياسياً واقتصادياً لموسكو، دون الانخراط المباشر. هذا الدعم، وإن كان غير معلن بالكامل، يعكس تشكل محور جديد في النظام العالمي، يضم روسيا والصين و..، في مواجهة الغرب بقيادة الولايات المتحدة.
الغرب في مأزق.. دعم مكلف ونتائج محدودة
رغم الدعم الهائل الذي قدمه الغرب لأوكرانيا، سواء عبر الأسلحة أو التمويل أو التدريب، إلا أن النتائج على الأرض لا تعكس هذا الاستثمار. فالقوات الأوكرانية تعاني من نقص في الذخيرة، وتراجع في المعنويات، وخسائر بشرية فادحة. في المقابل، تبدو روسيا أكثر تماسكاً، مستفيدة من عمقها الاستراتيجي، وقدرتها على تعبئة الموارد، ودعم حلفائها. والسؤال هنا إلى أين تتجه الحرب؟ السيناريو المرجح في المدى القريب هو استمرار الحرب بوتيرة متصاعدة، مع سعي كل طرف إلى إنهاك الآخر. روسيا تراهن على استنزاف القدرات الأوكرانية والغربية، بينما يراهن الغرب على إطالة أمد الحرب لإضعاف موسكو. هذا السيناريو، وإن كان مكلفاً، إلا أنه يعكس غياب الإرادة السياسية للتسوية.
السيناريو الثاني هو تسوية بشروط روسية ففي حال استمر التقدم الروسي بوتيرة ثابتة، وتفاقمت خسائر أوكرانيا البشرية والمادية، قد تجد كييف نفسها مضطرة للقبول بتسوية سياسية بشروط روسية. هذه التسوية قد تشمل الاعتراف بالمناطق التي ضمتها روسيا، وضمان حياد أوكرانيا، ووقف توسع «الناتو» شرقاً. هذا السيناريو، وإن كان مرفوضاً حالياً من الغرب، إلا أن تغير المعادلات الميدانية قد يفرضه كخيار واقعي، خاصةً إذا ما تراجعت قدرة الغرب على دعم كييف مالياً وعسكرياً.
والسيناريو الثالث يكمن في تدخل مباشر من «الناتو» ففي حال وقوع استفزاز كبير – مثل استخدام سلاح روسي مزيف ضد أهداف أطلسية كما كان مخططاً في قضية «ميغ-31» – قد يدفع ذلك «الناتو» إلى التدخل المباشر، ما يعني تحول الحرب إلى مواجهة مفتوحة بين روسيا والحلف. هذا السيناريو، رغم خطورته، يبقى وارداً في ظل التصعيد الاستخباراتي، لكنه يحمل في طياته مخاطر اندلاع حرب عالمية ثالثة، وهو ما يجعل معظم الأطراف تتجنبه حتى الآن.
أما السيناريو الرابع يتمثل في تجميد الصراع، دون تسوية نهائية، وتحوله إلى نزاع طويل الأمد، يشبه ما حدث في كوريا أو كشمير. في هذا السيناريو، تستمر الاشتباكات على خطوط التماس، دون تغير كبير في الخريطة، وتبقى أوكرانيا ساحة صراع بالوكالة بين روسيا والغرب. هذا النموذج، رغم كلفته، قد يكون مفضلاً لبعض الأطراف التي تسعى إلى استنزاف الخصم دون الدخول في مواجهة مباشرة.
روسيا تفرض معادلة جديدة في الحرب والسلام
ما يجري في أوكرانيا لم يعد مجرد صراع حدودي، بل تحول إلى حرب متعددة الأبعاد: عسكرية، استخباراتية، إعلامية، وسياسية. ومع كل تقدم ميداني، تتصاعد التصريحات، وتزداد المخاطر. وبينما يراهن كل طرف على إنهاك الآخر، تبقى روسيا في موقع المبادرة، تفرض معادلتها على الأرض، وتعيد رسم التوازنات الإقليمية والدولية.
في هذا السياق، تبدو موسكو أكثر ثقة بقدرتها على الصمود والانتصار، مستندة إلى دعم شعبي، وتفوق عسكري، وتحالفات دولية متنامية. أما الغرب، فرغم قوته الاقتصادية والعسكرية، يواجه تحديات داخلية وخارجية تهدد تماسكه واستمرارية دعمه لكييف. وبين هذا وذاك، تتشكل ملامح نظام عالمي جديد، تكون فيه روسيا لاعباً مركزياً لا يمكن تجاهله.
إن الحرب في أوكرانيا، قد تكون لحظة تاريخية فارقة، تعيد التوازن إلى العلاقات الدولية، وتكسر احتكار الغرب للقرار العالمي. وروسيا، التي تخوض هذه المعركة بشجاعة وثبات، تثبت يوماً بعد يوم أنها ليست مجرد قوة إقليمية، بل دولة عظمى قادرة على الدفاع عن مصالحها، وفرض رؤيتها.