من غزة إلى وول ستريت

كيف تحولت المأساة الفلسطينية إلى صفقة كبرى لشركات السلاح الأمريكية

 تكشف الحرب على غزة عن وجه آخر للرأسمالية المعولمة، حيث تتحول المآسي إلى فرص، والدماء إلى أرباح، وبينما يُدفن الشهداء في غزة، تُوزع الأرباح في وول ستريت

في عالمٍ تتشابك فيه المصالح السياسية والاقتصادية، وتُختزل فيه المآسي الإنسانية إلى أرقام في دفاتر الشركات، تبرز الحروب كفرص استثمارية مربحة. وقد تجسّد هذا الواقع بوضوح في الحرب الصهيونية الأخيرة على قطاع غزة، التي لم تكن مجرد مواجهة عسكرية، بل تحوّلت إلى صفقة ضخمة لشركات السلاح الأميركية. وبينما كانت غزة تحترق وتُدفن تحت الركام، كانت أسهم شركات الدفاع ترتفع، والمليارات تُضخ في حسابات الشركات، على حساب دافعي الضرائب الأميركيين. هذا المشهد يكشف أبعاداً متعددة تتداخل فيها السياسة بالاقتصاد، وتتصادم فيها الأخلاق مع الاستراتيجيات، ليظهر كيف تتحول المأساة الفلسطينية إلى مكسب مالي في بورصات وول ستريت، ويضع العالم أمام سؤال جوهري حول طبيعة النظام الدولي الذي يسمح بتحويل الدم إلى أرباح.

 

تضاعف المساعدات العسكرية الأمريكية للعدو

 

خلفت حرب الإبادة الجماعية في غزة عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، ودمرت البنية التحتية للقطاع المحاصر، لكنها في الوقت ذاته فتحت شرياناً اقتصادياً جديداً لشركات السلاح الأميركية.

 

فقد شهدت الحرب على غزة تضاعفاً كبيراً في حجم المساعدات العسكرية الأميركية لكيان العدو. فبعد أن كانت المساعدات السنوية تقدر بـ3.3 مليار دولار، ارتفعت إلى 6.8 مليار دولار في العام التالي. كما وافقت واشنطن على صفقات بيع أسلحة لكيان العدو تجاوزت قيمتها 32 مليار دولار منذ أكتوبر/تشرين الثاني 2023. هذه المبيعات لم تقتصر على الأسلحة التقليدية، بل شملت ذخائر ذكية، أنظمة دفاع جوي، طائرات مقاتلة، وذخائر موجهة بدقة، ما يشير إلى تحول نوعي في طبيعة الدعم الأميركي.

 

من الدعم إلى التبعية

 

منذ تأسيس كيان العدو عام 1948، بدأت الولايات المتحدة في تقديم مساعدات عسكرية متزايدة، لكنها بلغت ذروتها بعد حرب 1967، في الثمانينيات، تم تثبيت المساعدات السنوية، وفي عام 2016، وقّعت إدارة أوباما اتفاقاً يمنح كيان العدو 38 مليار دولار على مدى عشر سنوات. کما كشفت صحيفة «وول ستريت جورنال» عن «تَدفُّق غير مسبوق للأسلحة الأميركية إلى كيان العدو بقيمة 32 مليار دولار، منذ عام 2023». هذا الدعم لم يكن مجرد تعبير عن التحالف، بل تأسيس لعلاقة تبعية متبادلة: كيان العدو يعتمد على السلاح الأميركي، وأميركا تعتمد عليه كقاعدة نفوذ.

 

صناعة السلاح الأميركية .. اقتصاد قائم على الحرب

 

تُعد الولايات المتحدة أكبر مصدر للأسلحة في العالم، وتُشكل صادراتها العسكرية أكثر من 40% من السوق العالمية. هذه الصناعة توظف مئات الآلاف، وتُغذي الاقتصاد المحلي في ولايات مثل تكساس، فرجينيا، وميريلاند. الحروب الخارجية، خصوصاً في الشرق الأوسط، تُعد المحرك الأساسي لنمو هذه الصناعة. فكلما اشتدت النزاعات، زادت الطلبات، وارتفعت الأرباح. هذا النموذج الاقتصادي يجعل من الحرب ضرورة اقتصادية، لا مجرد خيار سياسي.

 

الكونغرس الأميركي .. شرعنة الصفقات

 

يلعب الكونغرس دوراً محورياً في تمرير صفقات السلاح، حيث تخضع كل صفقة تتجاوز قيمتها 25 مليون دولار لمراجعة الكونغرس. وغالباً ما تمر هذه الصفقات بسهولة، بسبب النفوذ الكبير الذي تمارسه شركات السلاح عبر جماعات الضغط (اللوبيات). فشركة «لوكهيد مارتن» وحدها أنفقت أكثر من 13 مليون دولار على الضغط السياسي في عام واحد. هذا النفوذ يضمن استمرار تدفق الأموال، ويحول الكونغرس من جهة رقابية إلى جهة شرعنة.

 

الشركات المستفيدة .. من التصنيع إلى الأرباح

 

تُعد شركات الدفاع الأميركية من أبرز المستفيدين من هذه الحرب. فشركة “بوينغ” زودت كيان العدو بالقنابل الذكية من طراز JDAM، بينما وفرت «لوكهيد مارتن» الطائرات المقاتلة F-35، وساهمت «نورثروب غرومان» في أنظمة الرادار والدفاع الجوي. هذه الشركات شهدت ارتفاعاً في أسهمها خلال فترة الحرب، وحققت أرباحاً قياسية، ما يعكس العلاقة الوثيقة بين التصعيد العسكري والازدهار الاقتصادي في قطاع الصناعات الدفاعية.

 

لا يمكن فصل هذه الصفقات عن البعد الجيوسياسي. فالدعم الأميركي لكيان العدو ليس مجرد تجارة، بل هو جزء من استراتيجية أوسع لتثبيت التفوق العسكري الصهيوني في المنطقة. وبالتالي، فإن صفقات السلاح ليست فقط وسيلة للربح، بل أداة للهيمنة الجيوسياسية.

 

يثير هذا الواقع تساؤلات أخلاقية عميقة: هل يجوز أن تتحول الحروب إلى فرص استثمارية؟ هل من المقبول أن تُبنى أرباح الشركات على أنقاض المدن وجثث الأطفال؟ في ظل غياب المحاسبة الدولية، تتحول المأساة الفلسطينية إلى مشهد متكرر من الاستغلال، حيث تُستخدم معاناة المدنيين كوقود لعجلة الاقتصاد العسكري.

 

من يدفع الثمن؟

 

اللافت أن العبء المالي لهذه الصفقات لم يتحمله كيان العدو، بل دافعو الضرائب الأميركيون. فبموجب اتفاقيات المساعدات العسكرية، يمنح كيان العدو ميزانيات ضخمة لشراء الأسلحة من الشركات الأميركية، ما يعني أن الأموال لا تخرج من الخزينة الصهيونية، بل من الخزينة الأميركية، وتعود مباشرة إلى جيوب شركات مثل «بوينغ»، «لوكهيد مارتن»، «نورثروب غرومان»، و«جنرال دايناميكس». هذا النموذج يعكس كيف تتحول السياسة الخارجية الأميركية إلى أداة لدعم الصناعات العسكرية المحلية.

 

الاقتصاد العسكري الأميركي .. دورة مغلقة من الربح والدم

 

الاقتصاد العسكري الأميركي يعمل ضمن دورة مغلقة: الحكومة تمول، الشركات تصنع، الإعلام يبرر، والكونغرس يشرعن. هذه الدورة تضمن استمرار التدفق المالي، بغض النظر عن الضحايا. فكلما اشتدت الحروب، ارتفعت الأرباح، وكلما زادت المآسي، توسعت الأسواق.

 

كسر هذه الحلقة يتطلب تحركاً شعبياً ودولياً، يفضح العلاقة بين الحرب والربح، ويطالب بمساءلة الشركات والحكومات. كما يتطلب دعماً للرواية الفلسطينية، وتوثيق الجرائم، ومقاطعة الشركات المتورطة، وفرض عقوبات على الدول التي تساهم في استمرار العدوان.

 

الإعلام الأميركي بين التغطية والتواطؤ

 

رغم أن بعض الصحف الأميركية كشفت هذه الحقائق، فإن الإعلام الأميركي بشكلٍ عام يتعامل مع الحرب على غزة من زاوية أمنية، مبرراً العدوان الصهيوني تحت شعار «حق الدفاع عن النفس». هذا التحيز الإعلامي يسهم في تبرير الصفقات العسكرية، ويغيب الرواية الفلسطينية، ما يعزز مناخ الإفلات من العقاب.

 

ورغم الإدانات الدولية الخجولة، لم تُتخذ أي خطوات عملية لوقف العدوان أو محاسبة كيان العدو، بل إن بعض الدول الأوروبية زادت من صادراتها العسكرية لتل أبيب، ما يعكس ازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا الإنسانية، ويؤكد أن المصالح الاقتصادية تتفوق على المبادئ الأخلاقية في العلاقات الدولية.

 

إن ما كشفته التقارير يجب أن يكون مدخلاً لحملة مساءلة واسعة، تشمل الشركات الأميركية، والحكومة الأميركية، والمؤسسات الدولية. فالمحاسبة لا يجب أن تقتصر على من يضغط الزناد، بل يجب أن تشمل من يصنع السلاح، ويموله، ويبرره إعلامياً.

 

والجدير ذكره أن هذه ليست المرة الأولى التي تتحول فيها الحرب إلى صفقة. فحرب العراق عام 2003 شهدت صفقات ضخمة لشركات مثل «هاليبرتون» و«رايثيون»، وحرب أفغانستان كانت فرصة ذهبية لصناعة الطائرات بدون طيار. النمط واحد: تبدأ الحرب، تُبرر سياسياً، تُغذى إعلامياً، تُموّل شعبياً، وتُربح شركاتياً. غزة ليست استثناء، بل استمرار لهذا النمط.

 

غزة في مرآة الرأسمالية العسكرية

 

تكشف الحرب على غزة عن وجه آخر للرأسمالية المعولمة، حيث تتحول المآسي إلى فرص، والدماء إلى أرباح، وبينما يُدفن الشهداء في غزة، تُوزع الأرباح في وول ستريت. هذه المفارقة الصارخة تضع العالم أمام سؤال وجودي: هل يمكن بناء نظام دولي عادل، في ظل اقتصاد حرب لا يعرف الرحمة؟ الإجابة تبدأ من كشف الحقائق، ومساءلة المتورطين، وتضامن الشعوب الحرة مع القضية الفلسطينية، ليس فقط من منطلق إنساني، بل من منطلق أخلاقي وسياسي واقتصادي أيضاً.

 

وقد لعبت الشعوب الحرة حول العالم دوراً مهماً في فضح جرائم الاحتلال، وتنظيم حملات مقاطعة، والضغط على حكوماتها. حركة BDS (المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات) نجحت في دفع شركات كبرى إلى الانسحاب من السوق الصهيونية. هذا الدور الشعبي يُعد ركيزة أساسية في مواجهة اقتصاد الحرب، ويُثبت أن التغيير ممكن من القاعدة إلى القمة.

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص