صراع التاريخ والجغرافيا على أبواب القرن الحادي والعشرين 

تايوان بين الصين واليابان.. مواجهة قد تغيّر شكل النظام العالمي 

 الصين ترى في تايوان قضية وجودية لا تقبل المساومة، فيما تعتبر اليابان أنّ أمنها القومي مرتبط باستقرار المضيق. الولايات المتحدة تلعب دورًا محوريًا في تأجيج الأزمة، فيما دول المنطقة تراقب بقلق شديد

يشكّل الصراع حول تايوان أحد أبرز الملفات الجيوسياسية في القرن الحادي والعشرين، حيث تتقاطع فيه مصالح القوى الكبرى، وتنعكس من خلاله التوازنات الدولية بين الصين والولايات المتحدة وحلفائها في آسيا، وعلى رأسهم اليابان. التصريحات الأخيرة الصادرة عن وزارة الدفاع الصينية، والتي حذّرت اليابان من «هزيمة ساحقة» إذا تجرّأت على التدخل في مسألة تايوان، أعادت تسليط الضوء على خطورة هذا الملف، وعلى احتمالات التصعيد العسكري والسياسي في منطقة شرق آسيا. إنّ هذا التحذير لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق التاريخي للعلاقات الصينية–اليابانية، ولا عن طبيعة النظام الدولي الذي يتشكّل اليوم في ظل التنافس الحاد بين القوى الكبرى.

 

الخلفية التاريخية للعلاقات الصينية–اليابانية

 

العلاقات بين الصين واليابان ليست وليدة اللحظة، بل هي محكومة بتاريخ طويل من التوترات والصراعات. منذ الحرب الصينية–اليابانية الأولى في أواخر القرن التاسع عشر، مرورًا بالاحتلال الياباني لأجزاء واسعة من الصين إبّان الحرب العالمية الثانية، وصولًا إلى مرحلة ما بعد الحرب، ظلّت الذاكرة التاريخية مثقلة بالجراح؛ الصين ترى أنّ اليابان لم تتحمّل كامل مسؤولياتها التاريخية عن الجرائم التي ارتكبتها قواتها، فيما تعتبر اليابان أنّها طوت صفحة الماضي وتسعى إلى بناء دور جديد في النظام الدولي.

 

هذا الإرث التاريخي ينعكس اليوم في كل مواجهة سياسية أو عسكرية بين البلدين، حيث تستحضر الصين «دروس التاريخ» لتذكير اليابان بالماضي، فيما تحاول اليابان أن تبرّر مواقفها بالاستناد إلى التزاماتها الأمنية ضمن تحالفها مع الولايات المتحدة. من هنا، يصبح أي تصريح أو موقف مرتبط بتايوان محمّلًا بدلالات تتجاوز اللحظة الراهنة، ليعيد إنتاج التوترات القديمة مجدداً.

 

تايوان كقضية مركزية في الاستراتيجية الصينية

 

من منظور الصين، تايوان ليست مجرد جزيرة ذات حكم ذاتي، بل هي جزء لا يتجزأ من أراضيها، وملف يرتبط مباشرة بمفهوم السيادة الوطنية ووحدة الدولة. مبدأ «صين واحدة» يشكّل حجر الأساس في السياسة الخارجية الصينية، وأي محاولة للتشكيك فيه تُعتبر تهديدًا وجوديًا. لذلك، فإنّ الصين ترى في أي دعم خارجي لتايوان، سواء كان سياسيًا أو عسكريًا، تدخّلًا سافرًا في شؤونها الداخلية.

 

هذا الموقف ليس جديدًا، لكنه يزداد تشددًا مع تصاعد النزعة الانفصالية داخل تايوان، ومع تزايد الدعم الأميركي لها عبر صفقات الأسلحة والزيارات الرسمية. الصين تعتبر أنّ الحفاظ على وحدة أراضيها يتطلب استعدادًا دائمًا لاستخدام القوة، وهو ما يفسّر التصريحات الحادة التي صدرت مؤخرًا ضد اليابان. فالرسالة الصينية واضحة: أي تدخل خارجي في ملف تايوان سيُواجَه برد عسكري حاسم.

 

الموقف الياباني ودوافعه الاستراتيجية

 

اليابان، من جهتها، تجد نفسها في موقع معقد. فهي من جهة ترتبط بتحالف أمني وثيق مع الولايات المتحدة، يفرض عليها التزامات في مواجهة أي تهديدات إقليمية. ومن جهةٍ أخرى، تدرك أنّ أي مواجهة عسكرية مع الصين ستكون مكلفة للغاية، نظرًا للفارق الكبير في القدرات العسكرية والعددية. تصريحات رئيسة الوزراء اليابانية ساناي تاكايتشي حول إمكانية ممارسة «حق الدفاع الجماعي عن النفس» إذا هاجمت الصين تايوان، تعكس هذا التوازن الدقيق بين الالتزام تجاه الحلفاء والقلق من مواجهة مباشرة مع الصين.

 

اليابان ترى أنّ أمنها القومي مرتبط بشكل وثيق باستقرار مضيق تايوان، إذ إنّ أي سيطرة صينية كاملة على الجزيرة ستعني تغيّرًا جذريًا في ميزان القوى في المنطقة، وتهديدًا مباشرًا لطرق التجارة البحرية التي تعتمد عليها اليابان بشكلٍ أساسي.

 

التحذير الصيني.. دلالاته وأبعاده

 

التحذير الصيني لليابان من «هزيمة ساحقة» يحمل أكثر من رسالة. أولًا، هو رسالة ردع تهدف إلى منع اليابان من التفكير في أي تدخل عسكري محتمل. ثانيًا، هو رسالة موجهة إلى الولايات المتحدة وحلفائها، مفادها أنّ الصين لن تتهاون في الدفاع عن سيادتها. ثالثًا، هو محاولة لتثبيت صورة الصين كقوة عظمى قادرة على فرض إرادتها في محيطها الإقليمي.

 

هذا الخطاب يعكس أيضًا ثقة الصين المتزايدة بقدرات جيشها، الذي شهد تطورًا هائلًا في العقود الأخيرة، سواء من حيث التكنولوجيا أو حجم القوات. الصين تريد أن تقول للعالم؛ إنّها لم تعد تلك الدولة التي يمكن الضغط عليها بسهولة، بل أصبحت قوة قادرة على مواجهة أي تحديات، حتى لو كانت من دول متقدمة مثل اليابان.

 

انعكاسات الأزمة على النظام الدولي

 

الأزمة بين الصين واليابان حول تايوان لا تقتصر على حدود شرق آسيا، بل لها انعكاسات واسعة على النظام الدولي. فهي تعكس التحول من نظام أحادي القطبية تهيمن عليه الولايات المتحدة، إلى نظام متعدد الأقطاب تتنافس فيه قوى كبرى مثل الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي. أي تصعيد في هذه الأزمة قد يؤدي إلى إعادة تشكيل التحالفات الدولية، وإلى تعزيز الانقسام بين معسكرين: معسكر تقوده الولايات المتحدة وحلفاؤها، ومعسكر تقوده الصين وحلفاؤها.

 

كما أنّ هذه الأزمة تطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل القانون الدولي، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. الصين تستند إلى هذا المبدأ لتبرير موقفها، فيما ترى اليابان أنّ الدفاع الجماعي عن النفس يبرر تدخلها.

 

البعد الاقتصادي للأزمة

 

لا يمكن فصل البعد الاقتصادي عن هذه الأزمة. فالصين واليابان هما من أكبر الاقتصادات في العالم، وأي مواجهة بينهما ستؤثر بشكلٍ مباشر على الاقتصاد العالمي. مضيق تايوان يُعتبر أحد أهم الممرات البحرية للتجارة الدولية، وأي اضطراب فيه سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الطاقة والسلع، وإلى اضطراب سلاسل التوريد العالمية. لذلك، فإنّ الأزمة لا تهدد فقط الأمن الإقليمي، بل تهدد أيضًا الاستقرار الاقتصادي العالمي.

 

اليابان تعتمد بشكلٍ كبير على واردات الطاقة والمواد الخام عبر هذا المضيق، فيما تعتبر الصين أنّ السيطرة عليه جزء من استراتيجيتها لضمان أمنها الاقتصادي. هذا التداخل يجعل من الأزمة أكثر تعقيدًا، ويزيد من احتمالات أن تتحول إلى مواجهة شاملة إذا لم يتم احتواؤها.

 

احتمالات التصعيد أو التهدئة

 

السيناريوهات المحتملة لهذه الأزمة تتراوح بين التصعيد العسكري والتهدئة الدبلوماسية. في حال قررت اليابان المضي قدمًا في دعم تايوان عسكريًا، فإنّ الصين قد تلجأ إلى خطوات أكثر حدة، مثل المناورات العسكرية أو حتى استخدام القوة المباشرة. أما إذا اختارت اليابان التراجع والاكتفاء بالدعم السياسي، فقد يتم احتواء الأزمة مؤقتًا، لكن جذورها ستظل قائمة.

 

الولايات المتحدة تلعب دورًا محوريًا في تحديد مسار الأزمة، إذ إنّ موقفها سيؤثر بشكل مباشر على قرارات اليابان والصين. إذا قررت واشنطن دعم تايوان بشكل أكبر، فإنّ احتمالات التصعيد ستزداد. أما إذا اختارت التهدئة، فقد تساهم في تخفيف التوترات.

 

من منظور الصين، الدور الأميركي هو العامل الأساسي في تأجيج الأزمة، إذ ترى أنّ واشنطن تستخدم اليابان كأداة لاحتواء الصين ومنعها من تحقيق وحدتها الوطنية. هذا التصور يعزز من حدة الخطاب الصيني، ويجعل أي موقف ياباني يُقرأ باعتباره امتدادًا للسياسة الأميركية، لا مجرد قرار مستقل.

 

تأثير الأزمة على التكنولوجيا وسلاسل التوريد العالمية

 

تايوان ليست مجرد جزيرة صغيرة، بل هي مركز عالمي لصناعة أشباه الموصلات، التي تُعتبر العمود الفقري للتكنولوجيا الحديثة. شركة «تي إس إم سي» التايوانية تُعد أكبر منتج لأشباه الموصلات في العالم، وتزوّد شركات كبرى مثل آبل، سامسونغ، وإنفيديا. أي اضطراب في تايوان سيؤدي إلى أزمة عالمية في قطاع التكنولوجيا، وسيؤثر بشكلٍ مباشر على الصناعات الإلكترونية والسيارات والطائرات.

 

اليابان، من جهتها، تعتمد بشكل كبير على هذه الصناعات، فيما ترى الصين أنّ السيطرة على تايوان ستمنحها تفوقًا استراتيجيًا في مجال التكنولوجيا. هذا البعد يجعل من الأزمة أكثر خطورة، إذ إنّها لا تهدد فقط الأمن والسياسة، بل تهدد أيضًا مستقبل الاقتصاد العالمي والتطور التكنولوجي.

 

سلاسل التوريد العالمية، التي تعاني أصلًا من اضطرابات بسبب جائحة كورونا والحروب التجارية، ستتعرض لضربة قاسية إذا تصاعدت الأزمة. ارتفاع أسعار الشرائح الإلكترونية سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الأجهزة الإلكترونية والسيارات، وسيؤثر على المستهلكين في كل أنحاء العالم. لذلك، فإنّ الأزمة حول تايوان ليست مجرد قضية إقليمية، بل هي قضية عالمية تمس حياة الناس بشكل مباشر.

 

أزمة إقليمية تتحول إلى قضية عالمية

 

الأزمة بين الصين واليابان حول تايوان تُجسّد الصراع الدولي على شكل النظام العالمي الجديد. الصين ترى في تايوان قضية وجودية لا تقبل المساومة، فيما تعتبر اليابان أنّ أمنها القومي مرتبط باستقرار المضيق. الولايات المتحدة تلعب دورًا محوريًا في تأجيج الأزمة، فيما تراقب دول المنطقة بقلق شديد. القانون الدولي يعجز عن تقديم حلول فعلية، وسلاسل التوريد العالمية مهددة بالانهيار. المقارنة مع الأزمات التاريخية تُظهر أنّ العالم يقف أمام لحظة فارقة، قد تحدد مستقبل العلاقات الدولية لعقود قادمة.

 

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص