لا يُمكن النظر إلى مقترح الكونغرس الأميركي بمصادرة نصف الأصول الروسية المجمّدة وتحويلها لدعم أوكرانيا كإجراء مالي بحت، بل هو انعكاس مباشر لمرحلة جديدة من استخدام الاقتصاد كسلاح في الصراع الجيوسياسي بين القوى الكبرى. فالمسألة تتجاوز حدود الدعم المالي لكييف، لتطرح أسئلة عميقة حول شرعية هذه الخطوة، انعكاساتها على النظام المالي العالمي، ومآلاتها على مستقبل العلاقات الدولية. إنّها لحظة فارقة تُظهر كيف أنّ أدوات الضغط الاقتصادي باتت جزءاً لا يتجزأ من إدارة الحروب الحديثة، وكيف أنّ الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا يسعون إلى إعادة صياغة قواعد اللعبة بما يخدم مصالحهم الاستراتيجية، حتى لو كان ذلك على حساب المبادئ التقليدية للقانون الدولي.
السياق العام للصراع
منذ اندلاع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا عام 2022، دخل العالم في مرحلة جديدة من التوترات التي أعادت إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة، لكن بأدوات مختلفة. فبدلاً من المواجهة العسكرية المباشرة بين القوى الكبرى، أصبح الاقتصاد والمال والطاقة أدوات رئيسية للصراع. الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لجآ إلى تجميد أصول روسية ضخمة، تشمل احتياطيات نقدية وأموال شركات وأفراد، في محاولة لحرمان موسكو من استخدام مواردها المالية لدعم مجهودها الحربي. لكن الانتقال من التجميد إلى المصادرة يُعدّ خطوة أكثر خطورة، لأنها تنقل الصراع من مستوى الضغط إلى مستوى الاستيلاء المباشر، وهو ما تعتبره روسيا انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي.
البعد القانوني والسياسي
من الناحية القانونية، تعتمد الولايات المتحدة على صلاحيات الرئيس في حالات الطوارئ الوطنية، وعلى قوانين مثل «قانون السلطات الاقتصادية الدولية الطارئة »، التي تسمح بتجميد الأصول الأجنبية. لكن المصادرة تختلف جذرياً عن التجميد، إذ تعني تحويل ملكية هذه الأصول من الدولة الروسية إلى طرف ثالث، في هذه الحالة أوكرانيا. هذا الإجراء يفتح الباب أمام جدل واسع حول شرعية استخدام الأصول السيادية كأداة سياسية، ويُثير مخاوف من أن يتحول إلى سابقة قد تُستخدم ضد دول أخرى في المستقبل. سياسياً، يُظهر القرار رغبة إدارة ترامب والكونغرس في استخدام كل الوسائل الممكنة لإضعاف روسيا، ويُرسل رسالة واضحة بأنّ الدعم لأوكرانيا لن يتوقف عند حدود المساعدات التقليدية، بل سيطال أموالاً روسية مجمّدة.
الأبعاد الاقتصادية والمالية
مصادرة 2.5 مليار دولار من الأصول الروسية بين عامَي 2026 و2028 ليست مجرد رقم مالي، بل هي خطوة تحمل انعكاسات واسعة على عدة مستويات. بالنسبة لروسيا، رغم أنّ المبلغ ليس ضخماً مقارنة باحتياطياتها الكلية، إلا أنّه يُشكّل سابقة خطيرة ويُضعف ثقتها بالنظام المالي الغربي. بالنسبة للنظام المالي العالمي، استخدام الأصول المجمّدة كأداة سياسية يُهدّد مبدأ حيادية المؤسسات المالية الدولية، ويُثير مخاوف لدى دول أخرى قد تجد نفسها مستهدفة مستقبلاً. أما بالنسبة لأوكرانيا، فإنّ هذه الأموال ستُستخدم لدعم اقتصادها المنهك عبر مشاريع متنوعة، ما يُعطيها متنفساً مالياً في مواجهة حرب طويلة الأمد. الولايات المتحدة أيضاً ستستفيد من هذه الخطوة عبر استثمار جزء من الأموال في سندات الخزانة الأميركية، ما يُعزز الثقة باقتصادها ويُظهر قدرتها على تحويل الأزمات إلى فرص مالية.
الموقف الأوروبي والتهديدات السابقة
الاتحاد الأوروبي كان قد ناقش مراراً مسألة استخدام الأصول الروسية المجمّدة لدعم أوكرانيا، وظهرت تهديدات أوروبية سابقة بأنّ عدم التوصل إلى صيغة قانونية واضحة سيُضعف قدرة الاتحاد على مواجهة روسيا. رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أكدت أنّ استغلال الأصول الروسية هو الخيار الأكثر فاعلية لتمويل أوكرانيا، لكن الموقف الأوروبي لم يكن موحّداً. بلجيكا، التي تحتفظ بالجزء الأكبر من هذه الأصول، واجهت ضغوطاً مكثّفة للموافقة على استخدامها، فيما أبدت دول أخرى مخاوف من أن يؤدي ذلك إلى فقدان الثقة في النظام المالي الأوروبي. هذه التهديدات السابقة تُظهر أنّ أوروبا كانت تُدرك خطورة الخطوة، لكنها في النهاية وجدت نفسها مضطرة إلى السير في هذا الاتجاه تحت ضغط الحاجة إلى تمويل أوكرانيا، وضغط الولايات المتحدة التي دفعت بقوة نحو هذا الخيار.
إسقاطات تاريخية ومقارنات
لا يمكن فهم خطوة الكونغرس الأميركي بمصادرة الأصول الروسية المجمّدة بمعزل عن تجارب سابقة مشابهة في التاريخ الحديث. فقد شهد العالم حالات متعددة استخدمت فيها القوى الكبرى سلاح تجميد الأصول كأداة ضغط سياسي. على سبيل المثال، جُمّدت أصول فنزويلا في الولايات المتحدة وأوروبا في السنوات الأخيرة، في سياق الصراع مع حكومة نيكولاس مادورو، حيث اعتُبرت هذه الأموال وسيلة للضغط على النظام السياسي، ومحاولة دفعه نحو تنازلات داخلية وخارجية. كذلك جُمّدت أصول كوريا الشمالية في الولايات المتحدة ودول أخرى نتيجة برامجها النووية والصاروخية، حيث اعتُبرت هذه الأموال وسيلة للضغط على بيونغ يانغ ودفعها نحو التفاوض بشأن أنشطتها العسكرية. كذلك واجهت يوغوسلافيا السابقة في تسعينيات القرن الماضي تجميداً واسعاً لأصولها في الخارج في حرب البلقان، وكان الهدف من ذلك إضعاف النظام السياسي آنذاك وإجباره على تقديم تنازلات في المفاوضات الدولية.
لكن الفرق الجوهري أنّ مصادرة الأصول الروسية اليوم تأتي في سياق مواجهة مفتوحة مع قوة نووية كبرى وعضو دائم في مجلس الأمن، ما يجعلها أكثر خطورة من الحالات السابقة. ففي حين كانت فنزويلا دولة إقليمية محدودة التأثير على النظام المالي العالمي، فإنّ روسيا تُشكّل ركناً أساسياً في الاقتصاد الدولي، سواء عبر صادرات الطاقة أو عبر احتياطياتها الضخمة من النقد الأجنبي. لذلك فإنّ أيّ خطوة تتعلق بمصادرة أصولها لا تُهدّد موسكو وحدها، بل تُهدّد أيضاً استقرار النظام المالي العالمي بأسره، وتفتح الباب أمام إعادة صياغة قواعد التعامل بين الدول والمؤسسات المالية الدولية.
السيناريوهات المستقبلية بين دعم أوكرانيا وتصعيد المواجهة مع موسكو
يتجاوز مقترح الكونغرس الأميركي بمصادرة نصف الأصول الروسية المجمّدة وتحويلها لدعم أوكرانيا كونه إجراءً مالياً ليصبح أداة مباشرة في إدارة المواجهة الجيوسياسية. هذه الخطوة تفتح الباب أمام سيناريوهات متعددة قد تعيد رسم ملامح النظام الدولي.
السيناريو الأول يتمثل في تعزيز الدعم الغربي لأوكرانيا بشكل غير مسبوق. فالأموال المصادرة ستمنح كييف موارد مالية إضافية لإعادة بناء البنية التحتية المدمّرة، تمويل المجهود الحربي، ودعم الاقتصاد المنهك. هذا الدعم سيُطيل أمد الحرب ويُضعف قدرة روسيا على فرض شروطها، لكنه في المقابل قد يزيد الخسائر البشرية والمادية ويُعمّق الأزمة الإنسانية، ما يُقلّل من فرص التوصل إلى تسوية سياسية سريعة.
السيناريو الثاني يرتبط برد فعل روسيا، التي ستتجه نحو تعزيز تعاونها مع الصين ودول البريكس. فمصادرة الأصول ستُعتبر دليلاً إضافياً على استخدام الغرب للاقتصاد كسلاح، ما سيدفع موسكو إلى تسريع بناء نظام مالي بديل يقلّل من الاعتماد على الدولار والمؤسسات الغربية. هذا التحوّل قد يشمل آليات دفع جديدة وتوسيع استخدام العملات المحلية، بما يعزز مشروع النظام متعدد الأقطاب الذي تسعى روسيا والصين إلى ترسيخه.
أما السيناريو الثالث فيتعلق بتداعيات القرار على النظام المالي الغربي نفسه. فمصادرة أصول دولة كبرى مثل روسيا ستُثير مخاوف لدى دول أخرى تحتفظ باحتياطيات مالية في الولايات المتحدة وأوروبا، وقد تدفعها إلى تقليل اعتمادها على الدولار وتحويل جزء من احتياطاتها إلى الذهب أو عملات بديلة. هذا التراجع في الثقة بالدولار سيُعيد تشكيل التحالفات الاقتصادية العالمية ويُضعف قدرة واشنطن على استخدام عملتها كأداة نفوذ.
السيناريو الرابع والأكثر خطورة يتمثل في رد روسي غير متوقع، سواء عبر قيود على صادرات الطاقة والمعادن الحيوية أو عبر تصعيد سياسي وعسكري يُربك الغرب. مثل هذا الرد قد يُحوّل القرار الأميركي إلى نقطة انطلاق لأزمة دولية أكبر تُعيد أجواء الحرب الباردة في سياق أكثر خطورة.
في المحصلة، تكشف هذه السيناريوهات أنّ مصادرة الأصول الروسية ليست مجرد خطوة مالية، بل قراراً استراتيجياً يُعيد رسم الصراع بين روسيا والغرب ويؤثر على مستقبل النظام الدولي بأسره.