التصعيد الأميركي ضد فنزويلا.. نحو «غزّة أخرى» أم إعادة هندسة النظام الإقليمي؟

 التحشيد الأميركي الضخم يضع فنزويلا تحت ضغط عسكري مباشر ويتجاوز ذريعة مكافحة التهريب، ملوّحاً بخيارات هجومية واسعة. في المقابل، ردّت كاراكاس بتعبئة شاملة مؤكدة أن أي تدخل قد يتحول إلى حرب استنزاف طويلة تقلب موازين القوى في المنطقة.

يقترب المشهد الفنزويلي من نقطة تحوّل قد تعيد رسم خرائط القوة في أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي. دخول الولايات المتحدة في أكبر حشد عسكري منذ عقود، وظهور مؤشرات على قرار سياسي مفتوح الخيارات، يتقاطعان مع تعبئة شاملة في كاراكاس وخطاب تحذيري يستجلب أحداث غزة وفيتنام بوصفها سيناريوهات محتملة. هذا ليس مجرد استعراض قوة، بل اختبار لإمكانية إعادة هندسة النظام الإقليمي عبر بوابة «مكافحة المخدرات» إلى داخل معادلة السلطة في فنزويلا، حيث الثروات الطبيعية، والهشاشة البنيوية للمعارضة، وتماسك بنى الدولة والمجتمع الفنزويلي، والتي تتشابك جميعها في أجواء صدامية عالية المخاطر.

 

لا يقتصر التحليل هنا على توصيف الحشد الأمريكي أو رصد ردود الفعل الفنزويلية، بل ينظر إلى أساس التحرك الأمريكي والامتدادات الإقليمية التي قد تنتج عنه، إضافةً إلى تاريخ التدخلات الأمريكية في أميركا اللاتينية. هذه العناصر مجتمعة تمنحنا قراءة لعدد من السيناريوهات المستقبلية إن وقعت الحرب، وتجعل من التحشيد الأميركي خطوة سياسية بامتياز، تحمل في طياتها احتمالات إعادة رسم موازين القوى في المنطقة.

 

السياق التاريخي والاستراتيجي للصراع الأميركي الفنزويلي

 

الصراع بين واشنطن وكاراكاس ليس حدثاً عابراً، بل نتيجة تراكم طويل من التوتر منذ بروز «التشافيزية» بخطابها السيادي والاجتماعي، الذي تحدّى الاندماج في اقتصاد الهيمنة الأمريكية. هذا الاشتباك يقوم على عدة مستويات مترابطة: مستوى اقتصادي يتمحور حول النفط والمعادن النادرة والبنية التحتية؛ ومستوى أمني ـ استخباري يشمل قضايا المخدرات، وضبط الحدود، والشبكات غير النظامية. ومع كل موجة تصعيد، تستحضر واشنطن تدخلاتها السابقة في أميركا اللاتينية، خصوصاً غزو بنما عام 1989م، باعتباره وسيلة اقناع على أن العمل العسكري قادر على فرض انتقال سياسي سريع. لكن هذه المقارنة تحمل خطراً كبيراً، لأنها تتجاهل الفوارق بين بنما وكاراكاس؛ فالتعامل مع الأخيرة، كعاصمة سياسية كبرى تمتلك جهاز دولة متماسكاً وقاعدة اجتماعية تعبويّة واسعة، يختلف جذرياً عن نموذج بنما الصغير والمؤسساتي الضعيف الذي كان يفتقر حينها إلى قوة اجتماعية منظمة.

 

التحشيد الأميركي ضد فنزويلا.. أبعاد القوة ومخاطر الصدام

 

دخلت الأزمة بين الولايات المتحدة وفنزويلا مرحلة غير مسبوقة مع إعلان دونالد ترامب عن قرار لم يكشف تفاصيله، بالتزامن مع أكبر حشد عسكري أميركي في البحر الكاريبي منذ عقود تحت اسم «عملية الرمح الجنوبي». ورغم تقديمه رسمياً كخطوة لمكافحة المخدرات، فإن حجم القوات ونوعيتها يكشفان عن أهداف أوسع، إذ دفعت واشنطن بأكثر من 12 سفينة حربية بينها مدمرات وطرادات وغواصة نووية، إضافةً إلى سفن برمائية تحمل آلاف المارينز، وأدخلت حاملة الطائرات «جيرالد فورد» الأحدث والأضخم في العالم، ونشرت طائرات شبحية «إف-35» في بورتوريكو مع إعادة فتح قاعدة «روزفلت رودز» المغلقة منذ 2004 لتكون مركزاً لوجستياً دائماً. هذا التحشيد الذي وصفه خبراء بأنه الأكبر في القرن الحالي، يضع فنزويلا تحت ضغط عسكري مباشر، ويتجاوز بكثير عمليات اعتراض قوارب صغيرة، ليُلوّح بخيارات تشمل ضربات دقيقة أو استهداف البنية الدفاعية والاقتصادية. في المقابل، ردّت كاراكاس بتعبئة شاملة محذّرة من أن أي تدخل سيحوّل البلاد إلى «غزة أخرى» أو «أفغانستان جديدة»، ما يعكس إدراكاً بأن القوة النارية وحدها لا تكفي لتحقيق حسم سياسي، وأن أي مواجهة قد تتحول إلى حرب استنزاف طويلة تعيد رسم موازين القوى في أميركا اللاتينية.

 

وهكذا فإن واشنطن عندما أعلنت عملية «الرمح الجنوبي» بذريعة مكافحة تهريب المخدرات، فهي في الواقع وفّرت غطاءً قانونياً وسياسياً أولياً لوجود عسكري واسع. فإدخال حاملة الطائرات «جيرالد فورد» مع مجموعتها القتالية، إضافة إلى مدمرات وغواصة هجومية وسفن برمائية تحمل آلاف المارينز، لا ينسجم مع مجرد اعتراض قوارب صغيرة في المياه الدولية، بل يكشف عن استعداد لاحتمال تنفيذ إنزال عسكري. كما أن نشر طائرات «إف-35» في بورتوريكو وإعادة فتح قاعدة لوجستية مغلقة سابقاً يكمّل بناء مسرح عمليات متكامل، يمنح واشنطن قدرة على التحرك بسرعة ومرونة، والانتقال بين الضغط والردع وصولاً إلى الإكراه، وفق عقيدتها في إدارة الصراعات المعقدة.

 

رد فنزويلا: تعبئة شاملة وردع بالمجتمع المنظّم

 

إعلان «خطة الاستقلال 200» وتعبئة الجيش والمجموعات المدربة، مع استدعاء قوات شعبية تُقدَّر بالملايين، يكشف أن الدفاع لم يعد مجرد مهمة مؤسسات الدولة، بل أصبح معادلة مشتركة بين الدولة والمجتمع. هذا يجعل الفكرة الأمريكية بإزاحة سريعة للدولة شبه مستحيلة، لأن ردع  الغزو الأمريكي موزّع على الأحياء والشبكات الصغيرة وقوات الاحتياط الشعبي. وهكذا فإن خطاب مادورو الذي يشبّه الوضع بـ«غزة» أو «أفغانستان» ليس مجرد مبالغة، بل رسالة ردعية تستند إلى تجارب حديثة أثبتت أن القوة العسكرية وحدها لا تضمن حسماً سياسياً، وأن الحروب مع مجتمعات منظّمة قد تطول وتتوسع خارج حدودها.

 

البعد الإقليمي وتداعياته على الصراع الأميركي ـ الفنزويلي

 

القرار الكولومبي بوقف تبادل المعلومات الاستخبارية احتجاجاً على انتهاكات حقوق الإنسان في الكاريبي كان مؤشراً مبكراً على أن الاصطفاف الإقليمي لن يكون آلياً إلى جانب واشنطن. كولومبيا، الملاصقة لفنزويلا والمتداخلة معها ديموغرافياً واقتصادياً، ستكون أول من يتلقى موجات الارتدادات إذا اندلعت حرب أهلية أو نشب نزاع مسلح طويل. دول الكاريبي، رغم اعتمادها الاقتصادي على علاقات مع الولايات المتحدة، تحمل ذاكرة مريرة لتدخلات عسكرية طالت السيادة وشوّشت التوازنات الداخلية. هذا الخليط سيجعل الحشد الأميركي أقل قدرة على بناء شرعية إقليمية صلبة، ويُحفّز دولاً على تبني حياد صلب أو نقد مباشر لواشنطن، ما يُقوِّض رواية التدخل لإنقاذ الاستقرار.

 

موارد الطاقة والمعادن.. جوهر الحسابات الاستراتيجية

 

هذا وتُعد السيطرة على موارد الطاقة والمعادن النادرة جزءاً أساسياً من الحسابات الاستراتيجية. فنزويلا، بما تملكه من قدرات نفطية واحتياطات ضخمة، تُعتبر هدفاً مغرياً لإعادة ترتيب سلاسل التوريد والتأثير في أسواق الطاقة، خصوصاً في ظل تقلبات عالمية. لذلك، حديث فنزويلا عن «النهب» ليس مجرد دعاية، بل يعكس واقعاً يرتبط غالباً بمحاولات إعادة توزيع الموارد تحت غطاء أمني. لكن أي تدخل عسكري سيطرح فوراً سؤالاً أساسياً: من يدير هذه الموارد؟ فمع انهيار مؤسسات الدولة، يتوقف الإنتاج، ويظهر اقتصاد غير رسمي، وتزداد أزمة الإمدادات العالمية بدلاً من حلها، ما يقلب منطق المصلحة إلى عكسه.

 

السيناريوهات المحتملة.. من الحصار إلى الانزلاق في حرب استنزاف

 

السيناريو الأول؛ يقوم على استمرار الضغط البحري والجوي عبر اعتراض وضربات محدودة، بهدف إنهاك قدرات فنزويلا ودفعها لتنازلات سياسية، مع محاولة منع الصراع من التمدد داخل المدن. السيناريو الثاني؛ يتجه نحو ضربات أوسع تستهدف مؤسسات حكومية أو عسكرية بذريعة «مكافحة الإنتاج والتهريب»، وهو ما سيؤدي إلى رد تعبوي وتصعيد غير متكافئ، يفتح الباب أمام حرب استنزاف طويلة. السيناريو الثالث؛ الأكثر خطورة، هو استهداف القيادة مباشرة لإحداث تغيير سريع، لكن ذلك سيخلق فراغاً واشتباكات داخلية متعددة، ويقود إلى انهيار الخدمات وفوضى ممتدة. أما السيناريو الرابع؛ فهو التراجع المدروس تحت ضغط داخلي أو خارجي، مع استخدام الحشد العسكري كورقة ردع وفتح مسار تفاوضي صارم. ووفق المعطيات، فإن أي انتقال من الضربات المحدودة إلى استهداف الداخل سيعني عملياً الدخول في حرب مفتوحة، حيث تبدو قدرة واشنطن على إنهاء الصراع بسرعة ضعيفة في بيئة مشحونة بالعداء ضد أمريكا.

 

شروط الخروج الآمن.. ما الذي يمنع «غزّة أخرى»؟

 

منع الانزلاق إلى نموذج شبيه بـ«غزة أخرى» لا يكفيه وقف إطلاق نار مؤقت أو تصريحات عامة، بل يحتاج إلى عدة شروط: أولاً، التوقف عن الضربات الداخلية التي قد تشعل تعبئة شعبية واسعة؛ ثانياً، تقديم ضمانات قوية لاحترام سيادة فنزويلا مقابل التزامات أمنية يمكن التحقق منها؛ وثالثاً، وضع إطار إقليمي يمنع تحويل الكاريبي إلى ساحة صراع عسكري مفتوح. من دون هذه الأسس، سيبقى أي «نجاح عسكري» مجرد خطوة نحو حرب استنزاف طويلة، وأي «تقدم سياسي» ضعيف أمام أول مواجهة كبيرة على الأرض.

 

ختاماً لا يحتاج الخروج من دوامة التصعيد إلى مزيد من الاستعراض العسكري، بل إلى قرار سياسي يضع مصلحة الشعوب فوق الحسابات الآنية. التراجع المدروس هنا ليس خسارة، بل إعادة ضبط للمسار بما يحفظ السيادة ويُبقي القانون الدولي مرجعاً أساسياً.

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص

الاخبار ذات الصلة