منذ أن اغتصبت العصابات الصهيونية أرض فلسطين، ظل هذا الكيان المؤقت يعيش تحت وطأة هاجس الزوال، وكأن النهاية ليست مجرد خطر خارجي يهدده، بل جزء متجذر في بنيته الداخلية ووعيه الجمعي، يعكس هشاشته وافتقاره إلى الثقة بقدرته على البقاء. هذا الكيان الذي تأسس على القوة العسكرية والإرهاب والدعم الغربي، لم يستطع أن يرسّخ لنفسه شعوراً بالاستقرار أو الثقة في المستقبل. وما كشفته صحيفة «هآرتس» الصهيونية عن وجود أرشيف سري ضخم داخل جامعة هارفارد الأمريكية، يحفظ كل ما يُنشر في كيان العدو تحسباً لانهياره، ليس مجرد خبر عابر، بل هو دليل دامغ على أن فكرة الزوال ليست احتمالاً بعيداً، بل هاجساً حاضراً في عقل قادته ونخبه. إن وجود “نسخة احتياطية” للذاكرة الصهيونية في الخارج يعكس إدراكاً داخلياً بأن هذا الكيان هشّ، وأنه قد ينهار في أي لحظة، وأن ثقافته المصطنعة تحتاج إلى مأوى آمن بعيداً عن أرض فلسطين التي لا تعترف به ولا تحتضن روايته.
هارفارد تحفظ ذاكرة كيان إلى زوال
بدأ تقرير صحيفة «هآرتس» بالحديث عن أرشيف ضخم تحفظه جامعة هارفارد في موقع سري، تحسباً لاحتمال زوال كيان العدو، وهو مشروع يعود إلى ستينيات القرن الماضي ويثير أسئلة حول البقاء والذاكرة. ففي عام 1988، زارت داليا موران، مديرة أرشيف حركة «هاشومير هتسعير» الصهيونية، مكتبة وايدنر التذكارية للقاء أمينها الدكتور تشارلز برلين، الذي كان يقود مهمة غير تقليدية، جمع السجل الكامل لكيان العدو داخل مخبأ محصّن في كامبريدج. لم يقتصر عمله على الوثائق التاريخية، بل شمل أيضاً تفاصيل الحياة اليومية مثل الكتيبات والملصقات والإعلانات والنشرات السياسية، انطلاقاً من قناعته بأن كل مادة تحمل دلالات عن طريقة عيش الناس وتفكيرهم وتنظيمهم. ويتجلى البعد الوجودي لهذا المشروع في زيارة الكاتب الصهيوني حاييم بير أواخر التسعينيات، حين تساءل عن سبب اهتمام جامعة أميركية بحفظ هذه الوثائق، ليجيبه برلين بسؤال صادم: «هل أنتم واثقون تماماً من أنكم ستنجون؟».
الأرشيف والذاكرة الجماعية
الأرشيف ليس مجرد مخزن للوثائق، بل هو أداة لصناعة الهوية الجماعية وتثبيت السرديات التاريخية. الدول الطبيعية تحفظ أرشيفاتها داخل حدودها، لأنها تثق ببقائها وتعتبر ذاكرتها جزءاً من سيادتها. أما كيان العدو، فقد اختار أن يحفظ ذاكرته في الخارج، في مؤسسة أمريكية، وكأنه يعترف ضمنياً بأنه لا يثق ببقائه ولا بقدرة مؤسساته على حماية تاريخه. هذا الأرشيف يضم ملايين الوثائق والصور والتسجيلات، من الكتب والمجلات إلى منشورات الكيبوتسات وكتيبات تخليد قتلى الحروب. إنه محاولة لتثبيت هوية مصطنعة، هوية تخشى أن تتلاشى مع زوال الكيان، وتبحث عن ضمانة خارجية لبقائها.
هواجس الزوال في الفكر الصهيوني
منذ نشأة المشروع الصهيوني، ارتبط وجوده بفكرة الدولة المؤقتة. قادة الحركة الصهيونية كانوا يدركون أنهم يقيمون كياناً في محيط معادٍ، وأن بقاءه مرهون بالدعم الغربي. لذلك ظل خطاب «الخطر الوجودي» حاضراً في كل مرحلة من تاريخ كيان العدو: في الحروب مع الدول العربية، في الصراع المستمر مع الشعب الفلسطيني، في المخاوف من هجوم خارجي أو انهيار داخلي. الأرشيف في هارفارد ليس سوى ترجمة عملية لهذا الهاجس، إذ يهدف إلى ضمان بقاء الذاكرة حتى لو زالت الدولة نفسها. هذا الاعتراف الضمني بالزوال يكشف هشاشة المشروع الصهيوني، ويؤكد أنه يعيش على القلق لا على الثقة، وأنه يفتقر إلى الإيمان بقدرته على الاستمرار.
ذاكرة مزوّرة بحماية تبحث عن مأوى خارجي
اختيار الولايات المتحدة كمكان لحفظ الأرشيف ليس صدفة، بل يعكس طبيعة العلاقة بين كيان العدو والغرب. فالكيان يدرك أن بقاءه مرتبط بالدعم الأمريكي، وأن واشنطن هي الضامن الأساسي لوجوده. وضع الأرشيف في جامعة هارفارد يعني أن كيان العدو يبحث عن «تأمين حضاري» في قلب القوة العظمى، بعيداً عن المخاطر التي تحيط بها في الشرق الأوسط. لكن هذا الخيار يكشف أيضاً عن فقدان السيادة، إذ أن الأرشيفات عادةً جزء من هوية الدولة، وحفظها في الخارج يعني التنازل عن جزء من هذه الهوية. إنه اعتراف بأن الكيان لا يثق بمؤسساته ولا بقدرته على حماية ذاكرته المزورة، وأنه يحتاج إلى وصاية خارجية حتى على تاريخه.
هشاشة الداخل وانقساماته
اللافت أن المشروع لا يقتصر على الوثائق الرسمية، بل يشمل أيضاً مواد هامشية مثل منشورات الكنائس وأعلام الأعياد ونشرات الكيبوتسات. هذا يعكس إدراكاً بأن الهوية الصهيونية ليست متماسكة، وأنها بحاجة إلى حفظ كل التفاصيل الصغيرة لتثبيت وجودها. لكنه يكشف أيضاً عن هشاشة الداخل، إذ أن المجتمع الصهيوني يعيش على التناقضات والانقسامات، من الصراعات الدينية والسياسية إلى التوترات بين اليهود الشرقيين والغربيين. الأرشيف هنا يصبح مرآة لأزمة الهوية، لا مجرد سجل للتاريخ، ويؤكد أن الكيان يعيش على محاولة يائسة لتوثيق مجتمع متصدع يخشى أن يتلاشى.
ووفق تقرير «هآرتس»، تعرض المشروع لانتقادات من مؤرخين صهاينة اعتبروا أنه ينطلق من الشك في بقاء كيان العدو. بعضهم رفض مشاركة أرشيفات حساسة مثل أرشيف الجيش أو الشعب اليهودي، لأن مجرد التفكير في «نسخة احتياطية» يعني الاعتراف بأن الدولة قد تزول. هذه الانتقادات تكشف أن فكرة الزوال ليست مجرد تهديد خارجي، بل هاجس داخلي يثير القلق حتى بين النخب الإسرائيلية. وحين يعترف مثقفون وأدباء بأن كيان العدو مهدد بالزوال، فهذا يعني أن الأزمة ليست سياسية فقط، بل وجودية في العمق، وأن الكيان يعيش على خوف دائم من النهاية.
أرشيف يعكس خوف الزوال
صحيح أن بعض الدول نقلت أرشيفاتها إلى الخارج في أوقات الحروب، لكن ذلك كان مؤقتاً بهدف حمايتها من الدمار. أما في حالة كيان العدو، فالمشروع دائم ويعكس قلقاً مستمراً من الزوال. هذا الفرق جوهري، إذ أن الدول الطبيعية تحفظ أرشيفاتها داخل حدودها لأنها تثق ببقائها، أما الكيان الصهيوني فيحفظها في الخارج لأنه يشك في استمراره. هذا الاختلاف يكشف أن كيان العدو ليس دولة طبيعية، بل مشروعاً هشّاً يعيش على الدعم الخارجي ويخشى أن ينهار في أي لحظة.
ولذا یمکن قراءة الأرشيف في جامعة هارفارد كـ«شهادة اعتراف» من الداخل بأن الكيان إلى زوال؛ فحين تبني دولة نسخة احتياطية من ذاكرتها في الخارج، فهذا يعني أنها تتوقع انهيارها. وحين يعترف مثقفوها بأنهم يخشون هجوماً أو تفككاً داخلياً، فهذا يعني أن النهاية ليست بعيدة. إن المشروع الأرشيفي ليس مجرد مبادرة أكاديمية، بل هو إعلان غير مباشر بأن كيان العدو كيان هش، يعيش على الدعم الخارجي، ويخشى أن ينهار في أي لحظة. وهذا الاعتراف يفتح الباب أمام قراءة جديدة للصراع، إذ أن المقاومة الفلسطينية والإسلامية ليست وحدها التي تتحدث عن زوال كيان العدو، بل هو نفسه يعترف به ضمنياً من خلال هذا الأرشيف.
الأرشيف كرمز لانتصار الذاكرة الفلسطينية
من المفارقات أن الأرشيف الصهيوني في جامعة هارفارد يعكس أيضاً انتصار الذاكرة الفلسطينية. فبينما يحاول الكيان حفظ ذاكرته في الخارج خوفاً من الزوال، يظل الشعب الفلسطيني متمسكاً بذاكرته على أرضه، من مفاتيح البيوت إلى روايات النكبة. هذا التناقض يكشف أن الذاكرة الحقيقية لا تُحفظ في مؤسسات أجنبية، بل في وجدان الشعوب. الفلسطينيون لا يحتاجون إلى أرشيفات سرية في الخارج، لأن ذاكرتهم حية في قلوبهم وبيوتهم وقراهم، بينما يبحث كيان العدو عن مأوى خارجي لهويته المصطنعة.
ذاكرة مؤقتة لكيان إلى زوال
الأرشيف السري في جامعة هارفارد ليس مجرد مشروع أكاديمي، بل هو دليل حي على أزمة وجودية يعيشها الكيان الصهيوني. إنه اعتراف ضمني بأن كيان العدو قد يزول، وأن ذاكرته بحاجة إلى مأوى آمن خارج أرض فلسطين المحتلة. هذا المشروع يكشف هشاشة الداخل، ويؤكد أن الكيان يعيش على القلق لا على الثقة، وعلى الدعم الخارجي لا على قوته الذاتية. إن قرب نهاية الكيان الصهيوني ليس مجرد أمنية أو خطاب سياسي، بل حقيقة تتجلى في كل تفاصيله: من خوفه من هجوم إلى انقساماته الداخلية، ومن محاولاته حفظ ذاكرته في الخارج إلى اعتراف مثقفيه بتهديد الزوال. الأرشيف في هارفارد ليس سوى «شهادة وفاة مؤجلة»، تؤكد أن هذا الكيان إلى زوال، وأن فلسطين ستبقى حية بذاكرتها وشعبها، بينما يظل الأرشيف الصهيوني مجرد محاولة يائسة لتأمين هوية مصطنعة في مواجهة النهاية الحتمية.