مع اقتراب الذكرى الرابعة للحرب الأوكرانية، تتكشف ملامح تسوية جديدة تحمل بصمات واشنطن وموسكو معاً، وتبدو أقرب إلى إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية لأوروبا الشرقية. هذه التسوية، التي عُرفت باسم «خطة ويتكوف – ديميترييف»، تضع أوكرانيا أمام تنازلات قاسية، بينما تمنح روسيا مكاسب استراتيجية واقتصادية غير مسبوقة منذ اندلاع الحرب في فبراير/شباط 2022. ويمكن النظر إلى هذه الخطة باعتبارها انتصاراً سياسياً ودبلوماسياً يوازي الانتصارات العسكرية المتراكمة على الأرض، ويعكس قدرة روسيا على فرض شروطها رغم سنوات من العقوبات والعزلة الغربية.
الحرب الأوكرانية؛ من المواجهة العسكرية إلى إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية
منذ 2022، تحولت الحرب الأوكرانية إلى أطول صراع أوروبي منذ الحرب العالمية الثانية. أوكرانيا، بقيادة زيلينسكي، تبنّت عقيدة قتالية قائمة على استعادة كامل أراضيها، بما فيها القرم، لكنها اصطدمت بواقع عسكري واقتصادي يفوق قدرتها. الغرب ضخّ مليارات الدولارات لدعم كييف، لكن هذا الدعم بدأ يتراجع مع تصاعد الأزمات الداخلية في أوروبا وأميركا. روسيا، رغم العقوبات، أعادت توجيه صادراتها نحو آسيا، وحافظت على استقرار اقتصادها، ما مكّنها من الصمود وإطالة أمد الحرب. ومع مرور الوقت، بدا أن موسكو لا تسعى فقط إلى السيطرة العسكرية، بل إلى فرض واقع سياسي جديد يعيد صياغة التوازنات الدولية.
خطة «ويتكوف – ديميترييف».. تكريس المكاسب الروسية
الخطة المسرّبة تحمل ملامح واضحة لانتصار روسي. فهي تضفي شرعية على سيادة موسكو في دونيتسك ولوغانسك والقرم، وتفرض على كييف التخلي عن أجزاء واسعة من دونباس. هذا الاعتراف الدولي بالسيطرة الروسية يحوّل المكاسب الميدانية إلى مكاسب قانونية ودبلوماسية، ويجعل من أوكرانيا دولة محايدة ضعيفة غير قادرة على تهديد روسيا مستقبلاً. إضافةً إلى ذلك، تحدد الخطة سقف القوات الأوكرانية بـ600,000 جندي، وتفرض تقليص الأسلحة الثقيلة، وتمنع الانضمام إلى الناتو. هذه البنود تعني أن أوكرانيا ستظل تحت رحمة موسكو، وأن أي محاولة لإعادة بناء قوتها العسكرية ستصطدم بالقيود المفروضة عليها.
المكاسب الاقتصادية والسياسية لموسكو
إلى جانب الاعتراف بسيادتها على الأراضي التي ضمتها، تمنح الخطة روسيا مكاسب اقتصادية هائلة. فهي تنص على رفع العقوبات المفروضة منذ 2022، وإعادة دمج روسيا في الاقتصاد العالمي، وقبولها مجدداً ضمن مجموعة الثماني، هذه البنود تعني أن موسكو ستخرج من الحرب أقوى اقتصادياً وأكثر قدرة على التأثير في الأسواق العالمية. بالنسبة لروسيا، هذا الانتصار لا يقل أهمية عن السيطرة العسكرية، إذ يعيد لها مكانتها كقوة عظمى قادرة على فرض شروطها على الغرب، ويمنحها فرصة لتوسيع نفوذها في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. من أبرز ما تكشفه خطة «ويتكوف – ديميترييف» أنّ موسكو استطاعت أن تجمع بين أدوات القوة الصلبة التي وظّفتها في الميدان العسكري، وبين أدوات الشرعية الدولية التي تُمنح عادة عبر التوافقات الدبلوماسية. فبعد أربع سنوات من الحرب، لم تعد روسيا مجرد قوة عسكرية تفرض واقعاً بالقوة، بل أصبحت طرفاً معترفاً به في صياغة مستقبل المنطقة. هذا التحول يضعها في موقع استراتيجي متقدّم، إذ لم يعد الغرب قادراً على عزلها أو فرض عقوبات طويلة الأمد عليها، بل اضطر إلى إعادة دمجها في المنظومة الاقتصادية العالمية.
أوكرانيا بين الفساد والاستنزاف العسكري
في المقابل، يجد زيلينسكي نفسه أمام أسوأ ظرف سياسي منذ توليه السلطة. فضائح الفساد التي ضربت إدارته أضعفت ثقة الشارع وأعطت الغرب مبرراً لتقليص الدعم. الجيش الأوكراني يعاني من استنزاف بشري ومادي، فيما يواصل الروس تحقيق مكاسب صغيرة لكنها متراكمة شرق البلاد. ومع تجميد التمويل الأميركي المباشر، أصبحت كييف مضطرة لقبول الإملاءات الأميركية، حتى لو كانت على حساب سيادتها. هذا الوضع يعكس أن أوكرانيا لم تعد قادرة على فرض شروطها، وأنها ستجد نفسها مضطرة للقبول بالخطة التي تعني التنازل عن الأرض والسيادة، أما في حال الرفض فيعني المغامرة بوجود الدولة نفسها.
أوروبا بين التهميش والقلق
رغم أن أوروبا تتحمل العبء الأكبر من التمويل العسكري والاقتصادي، إلا أنها استُبعدت من صياغة الخطة. تصريحات المسؤولين الأوروبيين أظهرت انزعاجاً من هذا التهميش، لكنهم عاجزون عن فرض رؤيتهم في ظل الهيمنة الأميركية – الروسية. هذا التهميش يعكس تراجع الدور الأوروبي في القضايا الأمنية الكبرى، ويُكرّس اعتمادها على واشنطن وموسكو. بالنسبة لروسيا، هذا الوضع مثالي، إذ يضعف وحدة الغرب ويجعل أوروبا مجرد تابع في لعبة الكبار، غير قادرة على مواجهة موسكو بشكلٍ مستقل.
دور ترامب: العصا والجزرة
في ولايته الثانية، حوّل ترامب عبء الحرب إلى الأوروبيين، مجمداً التمويل الأميركي المباشر. وهويسعى إلى تكريس صورته كمفاوض قوي، مستخدماً سياسة «العصا والجزرة»، عقوبات جديدة على النفط الروسي مقابل خطة التسوية. هذا الدور يعكس رغبة واشنطن في إنهاء الحرب بطريقة تحفظ هيمنتها، لكنها في الواقع تمنح موسكو مكاسب استراتيجية. بالنسبة لروسيا، وجود ترامب في البيت الأبيض يمثل فرصة ذهبية لترسيخ مكاسبها.
إعادة تشكيل النظام الدولي
الخطة تكشف عن تحولات أعمق في النظام الدولي. فبعد عقود من الهيمنة الأميركية المطلقة، يظهر الآن نظام متعدد الأقطاب، تلعب فيه روسيا دوراً محورياً. إعادة دمج موسكو في مجموعة الثماني، ورفع العقوبات عنها، يعكس اعترافاً ضمنياً بأن العالم لا يمكن أن يستقر من دون روسيا. هذا الاعتراف يعزز مكانة موسكو كقوة عظمى، ويمنحها شرعية جديدة في إدارة الملفات الدولية الكبرى.
في المحصلة خطة «ويتكوف – ديميترييف» تكشف أن روسيا استطاعت أن تحوّل مكاسبها العسكرية إلى مكاسب سياسية واقتصادية، لتكرّس موقعها كقوة عظمى رغم سنوات من العقوبات الغربية. أوكرانيا تجد نفسها مضطرة للتنازل عن الأرض والسيادة، فيما أوروبا مهمشة عن صياغة التسوية، وهو ما يعكس تراجع دورها في القضايا الأمنية الكبرى.
ما يُميز هذه اللحظة أن روسيا لم تكتفِ بالصمود أمام العقوبات، بل استطاعت أن تفرض نفسها كطرف لا غنى عنه في أي تسوية، تماماً كما فعل الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية. هذا التحول يعكس أن موسكو لم تعد مجرد قوة عسكرية، بل أصبحت قوة سياسية واقتصادية قادرة على إعادة تشكيل النظام الدولي. بالنسبة لأوكرانيا، الخطة تعني خسارة الأرض والسيادة، أما بالنسبة لأوروبا، فهي تعني التهميش وفقدان القدرة على التأثير. لكن بالنسبة لروسيا، فهي شهادة ميلاد جديدة كقوة عظمى، تؤكد أن الواقعية السياسية والقوة الصلبة لا تزالان العامل الحاسم في العلاقات الدولية.