افتُتحت قمة مجموعة العشرين في جنوب أفريقيا وسط مشهد عالمي يتغيّر بسرعة بفعل التنافس الجيوسياسي والحروب والارتباك الاقتصادي والانقسام المتصاعد، واختُتمت أعمالها على وقع هذه التحديات التي أكدت عمق التحولات في النظام الدولي. في هذا السياق، عادت «التعددية» لتتصدر الخطاب السياسي والاقتصادي لدى قادة كثر، ليس بوصفها شعاراً أخلاقياً، بل كأداة عملية لإدارة عالم بات يتسم بتعدد القواعد والمعايير وتزايد الانقسامات. ومع مقاطعة الولايات المتحدة القمة بدعوى تعارض السياسات، بدا واضحاً أن التوتر بين «سياسات التفرد» و«ضرورات التعددية» أصبح هو عنوان المرحلة. والسؤال هنا:ما الذي تغيّر فعلاً؟ لماذا تصبح التعددية أكثر إلحاحاً الآن؟ وكيف يمكن لمجموعة العشرين أن تحافظ على قدرتها التأثيرية رغم التشرذم؟
ما معنى «مرحلة الانقسام» ولماذا تُغيّر قواعد اللعبة؟
حين وصف بعض القادة الوضع العالمي بأنه «مرحلة انقسام»، كانوا يشيرون إلى أن العالم لم يعد يتحرك في انتقال هادئ من نظام قديم إلى آخر جديد، بل يعيش قطيعة مع أساليب إدارة العولمة التي عرفناها سابقاً. هذا الانقسام لا يعني مجرد تبدّل بسيط في السياسات، بل يُمثل تحوّلاً عميقاً في طريقة عمل الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية. ويمكن تلخيص معنى مرحلة الانقسام في ثلاثة ملامح مترابطة تُشكّل صورة أوضح للتحولات الجارية.
فأولاً: تشهد سلاسل الإمداد العالمية إعادة تشكيل عميقة؛ فالتوترات والمخاطر دفعت كثيراً من الدول إلى إعادة توطين صناعاتها الحساسة وتقليل اعتمادها على الخارج، وهو ما يُغيّر بصورة جذرية مفهوم التكامل الاقتصادي الذي كان سائداً في عصر العولمة .وثانياً: يبرز تجزؤ المعايير التقنية والرقمية كأحد أبرز مظاهر الانقسام، إذ لم تعد هناك منظومة موحدة لحماية البيانات أو المنتجات، بل ظهرت أنظمة متعددة ومتباينة، الأمر الذي يرفع كلفة التجارة ويجعل التعاون الدولي أكثر تعقيداً.
أمّا ثالثاً: فقد اتجهت السياسات الاقتصادية نحو الحمائية ودعم الصناعات المحلية، بعدما أثبتت الأزمات أن الأسواق وحدها غير قادرة على ضمان الأمن الاقتصادي في أوقات الاضطراب، فباتت الحكومات تتدخل بشكلٍ مباشر لحماية قطاعاتها الاستراتيجية.
القمة في أفريقيا.. مركز الثقل العالمي يتغير
انعقاد القمة للمرة الأولى في أفريقيا ليس تفصيلاً بروتوكولياً؛ إنه اعتراف بأن «مركز الثقل» يتغيّر وأن الجنوب العالمي بات طرفاً لا يمكن تجاوز مصالحه. أفريقيا، بما تملكه من فرص في الطاقة المتجددة والزراعة الذكية والخدمات الرقمية منخفضة الكلفة، تحتاج إلى شراكات عادلة وتمويل مبتكر، لا إلى صيغ تكرر تبعية قديمة أو تُحمّلها كلفة مناخ لم تصنعه تاريخياً. وجود الاتحاد الأفريقي إلى جانب الاتحاد الأوروبي داخل المجموعة يخلق إمكاناً لاتفاقات تمويل وتنظيم تتوازن فيها المسؤوليات من آليات لإعادة هيكلة الديون، قنوات لتمويل المناخ دون تحويله إلى سلاح تجاري، وشبكات لنقل التكنولوجيا تربط الجامعات ومراكز الأبحاث عبر القارات.
مقاطعة الولايات المتحدة.. إختبار واقعي لمرونة المجموعة
مقاطعة واشنطن القمة بدعوى تعارض السياسات مع أولويات البلد المضيف تكشف توتراً معروفاً؛ قوة كبرى ترى أن بعض مسارات التوافق لا تخدم مصالحها الراهنة، فتُفضّل الانسحاب لتثبيت شروط تفاوض جديدة.
كما يختبر قرار الولايات المتحدة مقاطعة القمة بدعوى تعارض السياسات مع أولويات البلد المضيف قدرة مجموعة العشرين على العمل رغم الخلافات بين القوى الكبرى. سياسياً، الرسالة بسيطة فلا يمكن رهن كل تقدم دولي بإجماع كامل. فالحل الواقعي هو الاستمرار في إصدار بيان يعكس ما اتفقت عليه الأغلبية، ثم تحويل هذا البيان إلى خطوات عملية عبر مشاريع تقودها دول مستعدة للمضي قدماً. هذا النهج لا يلغي دور القوى الكبرى، لكنه يعطي التعددية معنى عملياً حتى في أصعب الظروف.
تصاعد التوترات حول المعادن النادرة وتحدٍ أميركي في قمة العشرين
أكدت قمة مجموعة العشرين في جوهانسبرغ ضرورة تعزيز حماية المعادن النادرة من الإجراءات التجارية الأحادية، في إشارة غير مباشرة إلى القيود التي فرضتها الصين في الحرب التجارية التي أطلقها دونالد ترامب في أبريل/نيسان الماضي. وجاء في مسودة الوثيقة أن الهدف هو ضمان قدرة سلاسل قيمة المعادن الأساسية على الصمود أمام الاضطرابات الناجمة عن التوترات الجيوسياسية أو التدابير التجارية المخالفة لقواعد منظمة التجارة العالمية أو الأوبئة والكوارث الطبيعية. وكانت الصين قد شددت هذا العام نظام التراخيص على صادرات المعادن الأساسية، ما حدّ من وصول العالم إلى المواد الحيوية لصناعة كل شيء من الهواتف المحمولة إلى الصواريخ.
وفي هذا السياق، اعتبرت المفاوضة التجارية الأميركية السابقة ويندي كاتلر؛ أن انتقاد الصين – ولو دون ذكر اسمها – يُمثل تحولاً كبيراً في موقف أعضاء المجموعة، مشيرةً إلى أن الصياغة تعكس عمق القلق العالمي من خطوات بكين الأخيرة لتعطيل سلاسل التوريد لمصلحتها الخاصة. ويأتي ذلك بعد إعلان ترامب الشهر الماضي؛ أن الهدنة التي توصل إليها مع نظيره الصيني شي جين بينغ أعادت فتح باب الوصول إلى هذه المعادن للعالم بأسره، وليس فقط للولايات المتحدة. وتجدر الإشارة إلى أن إعلان قمة المجموعة العام الماضي في البرازيل ذكر المعادن النادرة مرة واحدة فقط، ودعا حينها إلى بناء «سلاسل توريد مسؤولة».
وقد خصص مشروع وثيقة قمة مجموعة العشرين في جوهانسبرغ هذا العام قسماً من أربع نقاط لمعالجة قضية المعادن النادرة، في خطوة تعكس اشتداد التوترات بشأنها. وتضمن المشروع خطة عمل طوعية وغير ملزمة تهدف إلى جعل هذه الموارد «محركاً للازدهار والتنمية المستدامة». وقد صدر الإعلان في غياب الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي أوفد رئيس مجلس الدولة لي تشيانغ لتمثيل بلاده، فيما تبقى صياغة البيان قابلة للتغيير في فعاليات نهاية الأسبوع.
وقد تعرضت القيود الصينية على المعادن الأرضية النادرة لانتقادات واسعة من دول أوروبية وآسيوية إضافةً إلى الولايات المتحدة، رغم أن مدى توافقها مع قواعد منظمة التجارة العالمية لا يزال غير محسوم. وتشمل هذه القيود المواد ذات الاستخدام المزدوج، ما يجعلها مؤثرة على التطبيقات العسكرية والتجارية في آنٍ واحد. وفي الوقت نفسه، ركز القادة الأوروبيون المشاركون في القمة على ملف أوكرانيا وسط ضغوط أميركية على كييف للقبول باتفاق سلام غير متوازن مع روسيا. وقد أشار البيان بشكلٍ محدود إلى الحرب الروسية الأوكرانية والصراعات الأخرى، مؤكداً على مبادئ الأمم المتحدة في احترام السيادة وسلامة الأراضي ونبذ استخدام القوة، كما أدان جميع الهجمات على المدنيين والبنى التحتية.
ويأتي قرار جنوب أفريقيا بصياغة مسودة إعلان في تحدٍ مباشر للولايات المتحدة التي قاطعت القمة؛ إذ حثت واشنطن بريتوريا في رسالة رسمية على عدم نشر بيان مشترك، معتبرة أنه لن يعكس وجهة نظرها. وأكدت الولايات المتحدة أنها «تعُارض إصدار أي وثيقة ختامية لقمة مجموعة العشرين بناءً على موقف توافقي للمجموعة دون موافقتها».
مجموعة العشرين بين التراجع وصعود قوى بديلة
قبل خمسة عشر عاماً، بدت مجموعة العشرين وكأنها «لجنة إدارة العالم»بعد نجاحها في تنسيق الاستجابة للأزمة المالية عام 2008م، لكنها اليوم تواجه أزمة عميقة في قدرتها على إنتاج توافقات سياسية رغم أنها تُمثل 85% من الناتج العالمي و75% من التجارة. التوترات الجيوسياسية، خصوصاً الانقسام الأميركي-الصيني والحرب في أوكرانيا، حوّلت القمم من منصات للتفاوض إلى ساحات لعرض المواقف، وأدت إلى شلل شبه كامل في صياغة بيانات ختامية ذات مضمون. كما أن تضخم جدول أعمال المجموعة ليشمل المناخ والصحة والرقمنة والأمن الغذائي، دون أدوات متابعة فعالة، كشف فجوة متزايدة بين التعهدات والتنفيذ، سواء في ملف المناخ حيث تستمر الدول في دعم الوقود الأحفوري، أو في أزمة الديون التي لم تُعالج إلا جزئياً.
هذا التراجع فتح المجال أمام قوى صاعدة لملء الفراغ، أبرزها البريكس الموسعة التي ضمت دولاً جديدة وأصبحت قوة موازية في أسواق الطاقة والمعادن، إضافة إلى التحالفات المصغرة مثل نوادي الكربون وشراكات التكنولوجيا، والمؤسسات العابرة للحدود التي تضع معايير مؤثرة خارج الأطر الحكومية التقليدية.
ختاماً يتجه العالم نحو نظام متعدد الأقطاب بلا مركز قيادة واحدة، حيث تتوزع القوة بين الصين والهند والبرازيل وبلدان متعددة، فيما تتقلص قدرة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على فرض قواعد موحدة. ومع ذلك، تبقى مجموعة العشرين منصة لا يُمكن تجاهلها، لأنها الوحيدة التي تجمع هذا الحجم من القوة الاقتصادية في مكانٍ واحد.