وتعتبره محاولة متعمدة لتقويض جهود التسوية في أوكرانيا

موسكو تحذر الناتو.. التصعيد خط أحمر والسيادة غير قابلة للمساومة 

 يشكل تحذير موسكو للناتو رسالة استراتيجية تهدف إلى منع انزلاق العالم نحو مواجهة شاملة، والتأكيد على أن روسيا ستظل قوة مسؤولة تدافع عن مصالحها وتكشف حقيقة النوايا الغربية

في الأول من ديسمبر/  كانون الأول 2025، شهدت الساحة الدولية تصعيداً جديداً بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، بعد تصريحات مثيرة للجدل أدلى بها رئيس اللجنة العسكرية للحلف، جوزيبي كافو دراغون، حول إمكانية توجيه «ضربات استباقية» ضد روسيا بذريعة مواجهة ما وصفه بـ«الهجمات الهجينة». هذه التصريحات، التي اعتبرتها موسكو غير مسؤولة وخطوة نحو التصعيد، أعادت إلى الواجهة سؤالاً محورياً: هل يسعى الناتو إلى دفع المنطقة نحو مواجهة مفتوحة، أم أن روسيا هي من تكشف حقيقة النوايا الغربية وتدافع عن أمنها القومي؟

 

التصريحات الغربية.. استفزاز أم سياسة؟

 

منذ بداية الأزمة الأوكرانية، اعتمدت مؤسسات الناتو خطاباً يقوم على شيطنة روسيا واتهامها بالعدوانية. لكن تصريح دراغون الأخير يمثل نقلة نوعية في هذا الخطاب، إذ يتجاوز حدود الردع التقليدي ليطرح فكرة «الضربة الاستباقية»، وهي فكرة تحمل في طياتها تهديداً مباشراً لأمن روسيا وسيادتها.

 

ماريا زاخاروفا، المتحدثة باسم الخارجية الروسية، وصفت هذه التصريحات بأنها محاولة متعمدة لتقويض جهود التسوية في أوكرانيا، مؤكدةً أن موسكو ترى فيها دليلاً على رغبة الحلف في التصعيد، لا في التهدئة. هذا الموقف يعكس إدراكاً روسياً عميقاً بأن الغرب لا يسعى إلى السلام، بل إلى إطالة أمد النزاع لتحقيق مكاسب جيوسياسية.

 

روسيا والناتو.. من التعاون إلى المواجهة

 

عقب انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، بدا وكأن صفحة جديدة يمكن أن تُفتح بين روسيا والغرب. موسكو، التي كانت تعيش مرحلة انتقالية صعبة سياسياً واقتصادياً، أبدت استعداداً للتعاون مع المؤسسات الغربية، بل شاركت في برنامج «الشراكة من أجل السلام» الذي أطلقه الناتو عام 1994، في محاولة لإيجاد أرضية مشتركة للأمن الأوروبي.

 

لكن سرعان ما تبيّن أن هذه الوعود لم تكن سوى غطاء لسياسة توسعية. ففي عام 1999، انضمت بولندا والمجر وجمهورية التشيك إلى الحلف، وهو ما اعتبرته روسيا خيانة صريحة للوعود غير الرسمية التي قُطعت لها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، حين طُرحت فكرة أن الناتو لن يتوسع شرقاً. بالنسبة لموسكو، كان هذا التوسع تهديداً مباشراً لأمنها القومي، ورسالة واضحة بأن الغرب لا يسعى إلى شراكة متكافئة بل إلى تطويقها.

 

مع بداية الألفية الجديدة، حاولت روسيا بقيادة فلاديمير بوتين إعادة بناء جسور الثقة مع الغرب. وقدمت دعماً لواشنطن بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، بل سمحت باستخدام قواعد في آسيا الوسطى لدعم العمليات الأميركية في أفغانستان. بدا وكأن هناك فرصة لتعاون أمني واسع ضد الإرهاب.

 

لكن هذا التعاون لم يدم طويلاً. ففي عام 2004، توسع الناتو مجدداً ليضم دول البلطيق الثلاث (إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا) إضافةً إلى رومانيا وبلغاريا وسلوفاكيا وسلوفينيا. هذا التوسع وصل إلى حدود روسيا المباشرة، ما أثار غضباً شديداً في موسكو، التي رأت أن الغرب يستغل لحظة ضعفها التاريخية لفرض واقع جديد في أوروبا الشرقية. وهكذا، تلاشت آمال التعاون، وحل محلها شعور متزايد بالتهديد والعداء.

 

في أغسطس/ آب 2008، اندلعت الحرب بين روسيا وجورجيا، لتشكل نقطة تحول حاسمة في العلاقة مع الناتو. جورجيا، التي كانت تسعى للانضمام إلى الحلف، دخلت في مواجهة مع موسكو حول إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. روسيا تدخلت عسكرياً بسرعة وحسم، معتبرةً أنها تدافع عن مصالحها الاستراتيجية وعن سكان تلك المناطق الذين يرتبطون بها تاريخياً وثقافياً.

 

الغرب، من جانبه، وصف التدخل الروسي بأنه «عدوان»، لكن موسكو رأت فيه ممارسة لحقها المشروع في حماية أمنها القومي ومنع توسع الناتو إلى حدودها الجنوبية. هذه الحرب عززت قناعة روسيا بأن الحلف لا يتردد في استخدام خطاب «الدفاع» لتبرير تدخلاته، وأن أي محاولة من دول الجوار للانضمام إليه ستؤدي إلى مواجهة مباشرة معها.

 

الأزمة الأوكرانية عام 2014 كانت بمثابة الانفجار الكبير في العلاقة بين روسيا والناتو. بعد الإطاحة بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش المدعوم من موسكو، رأت روسيا أن ما حدث في كييف لم يكن سوى انقلاب مدعوم من الغرب يهدف إلى جر أوكرانيا إلى الحلف.

 

رد موسكو جاء سريعاً وحاسماً بضم شبه جزيرة القرم، وهو قرار اعتبرته دفاعاً عن مصالحها الاستراتيجية وحقوق السكان الناطقين بالروسية هناك. الغرب رد بفرض عقوبات واسعة، وبدأت مرحلة جديدة من المواجهة المفتوحة. بالنسبة لروسيا، كانت هذه الأزمة دليلاً إضافياً على أن الناتو لا يسعى إلى الاستقرار، بل إلى زعزعة محيطها الحيوي وتطويقها عسكرياً وسياسياً.

 

الهجمات الأوكرانية تستهدف البنية التحتية

 

في موازاة التصعيد الكلامي، شهدت عطلة نهاية الأسبوع هجوماً أوكرانياً بطائرة مسيرة على منشأة تابعة لشركة «كاسبيان بايبلاين كونسيورتيوم» (CPC) في ميناء نوفوروسييسك الروسي. الهجوم، الذي أدى إلى تعطيل أحد مواقع الرسو، وصفه الكرملين بأنه «مروع» نظراً لأهمية الشركة الدولية ومشاركة أطراف من روسيا وكازاخستان والولايات المتحدة في إدارتها.

 

هذا الاعتداء لا يمكن النظر إليه إلا كجزء من استراتيجية أوكرانية مدعومة غربياً تهدف إلى ضرب المصالح الروسية الحيوية، بل وحتى مصالح شركاء دوليين مثل تركيا ومالكي السفن في البحر الأسود. هنا يظهر التناقض الغربي: كيف يمكن للناتو أن يتحدث عن «دفاع» في حين أن حليفه الأوكراني يهاجم منشآت دولية ذات طابع اقتصادي عالمي؟

 

الرد الروسي بين الدفاع والرسائل السياسية

 

الرد الروسي على هذه التطورات جاء مزدوجاً؛ من جهة، تحذير دبلوماسي شديد اللهجة للناتو، ومن جهةٍ أخرى، عمليات عسكرية في أوكرانيا أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى في مدينة دنيبرو. هذه الضربات، التي يصفها الغرب بأنها «عدوانية»، تراها موسكو جزءاً من حقها المشروع في الدفاع عن أمنها القومي وردع الهجمات الأوكرانية المستمرة.

 

إن روسيا، عبر هذه الاستراتيجية، ترسل رسالة واضحة، أي محاولة لتقويض أمنها أو تهديد مصالحها ستواجه بردٍ مباشر، سواء كان ذلك عبر القنوات الدبلوماسية أو عبر القوة العسكرية.

 

 فرنسا والولايات المتحدة في المشهد الدولي

 

زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى باريس ولقاؤه بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عشية لقاء مرتقب بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومبعوث لدونالد ترامب، تكشف أن الأزمة لم تعد محصورة بين موسكو وكييف، بل باتت ساحة اختبار لإرادة القوى الكبرى.

 

بينما يسعى الغرب إلى فرض أجندته عبر دعم أوكرانيا سياسياً وعسكرياً، تحاول روسيا أن تضع خطوطاً حمراء واضحة، مؤكدةً أن أي تسوية لا يمكن أن تتم عبر الإملاءات، بل عبر الحوار المتكافئ الذي يحترم مصالح جميع الأطراف.

 

روسيا تؤكد موقفها الحازم

 

من منظور روسي، فإن تصريحات الناتو الأخيرة ليست مجرد كلمات عابرة، بل هي مؤشر على نية الحلف تجاوز قواعد القانون الدولي واللجوء إلى سياسة القوة. روسيا، التي خبرت على مدى العقود الماضية محاولات الغرب لتطويقها عبر التوسع العسكري والاقتصادي، ترى أن الوقت قد حان لتأكيد موقفها الحازم.

 

إن تحذير موسكو للناتو من «العواقب المحتملة» لا يقتصر على الجانب العسكري، بل يشمل أيضاً البعد السياسي والاقتصادي، حيث يمكن أن تؤدي مثل هذه السياسات إلى زعزعة الاستقرار الأوروبي وإلحاق الضرر بأعضاء الحلف أنفسهم.

 

موسكو تفضح ازدواجية الناتو

 

منذ التسعينيات وحتى اليوم، أثبتت العلاقة بين روسيا والناتو أنها علاقة قائمة على الشكوك والتهديدات أكثر من التعاون والثقة. توسع الحلف شرقاً، حرب جورجيا، أزمة أوكرانيا، وأخيراً تصريحات «الضربة الاستباقية» كلها حلقات في سلسلة طويلة من المواجهة.

 

في هذا السياق، يظهر الموقف الروسي الحالي ليس كتصعيد غير مبرر، بل كامتداد طبيعي لتاريخ طويل من الدفاع عن السيادة في مواجهة محاولات الغرب لتطويقها. إن تحذير موسكو للناتو اليوم هو رسالة استراتيجية تهدف إلى منع انزلاق العالم نحو مواجهة شاملة، والتأكيد على أن روسيا ستظل قوة مسؤولة تدافع عن مصالحها وتكشف حقيقة النوايا الغربية.

 

المصدر: الوفاق/ خاص