يومٌ بَنت فيه آسيا الجسور وهدم الغربُ جدرانه

الدلالة الفلسفية لقرار الإعفاء المتبادل بين الصين وروسيا

في الأوّل من ديسمبر ٢٠٢٥، بدا المشهد مجرّد قرار إداري: فلاديمير بوتين يوقّع مرسوماً يمنحُ ١,٤ مليار مواطن صيني دخولاً حرّاً إلى روسيا، من دون تأشيرة، ولمدة ثلاثين يوماً قابلة للتجدد. لكن خلف هذا السطر البسيط، كانت لحظةٌ أعمق تتكوّن؛ لحظةٌ تُسجّل الانتقال الفعلي من عالمٍ غربيّ المركز إلى عالمٍ يتشكّل خارج المدار الأميركي. لم يكن ذلك قراراً سياحياً؛ كان هندسةً حضاريّة تُعيد رسم خريطة الحركة البشرية والقوة الناعمة.

د. بهمن أكبري

 

 

الأول؛ من سياسة «الاحتواء» إلى سياسة «الاتصال»

 

منذ ٢٠٢٢ اعتمدت العواصم الغربية استراتيجية الإغلاق: تحريم، عزل، سلاسل توريد مؤمّنة، ومقاربات تستبدل الانفتاح بالقلق.

 

في المقابل، كانت آسيا—الصين وروسيا وآسيا الوسطى—تبني منطقاً آخر: منطق الجسور لا الجدران.

 

مشاريع، ممرّات، سكك حديد، شهادات دخول مبسّطة، وحركةٌ بشرية تُنشئ شبكةً سياسية أمتن من أيّ تحالفٍ رسمي.

 

الإعفاء المتبادل بين بكين وموسكو لم يكن صدفة. بكين بادرت في سبتمبر، وموسكو استجابت في ديسمبر. وباكتمال «حلقة التغذية الراجعة» تكوّنت أعلى درجات الاتصال: التنقّل بلا احتكاك.

 

الثاني؛ الأرقام لا تُفسّر نفسها… بل تكشف تحوّلاً

 

خلال ٤٨ ساعة فقط: زيادة ٤٠٠٪ في الحجوزات إلى روسيا، ارتفاع ٥٠٪ في إشغال الفنادق لشهر ديسمبر، تضاعف حجوزات الطيران، وصول ٦٧ ألف زائر صيني إلى فلاديفوستوك خلال أيّام معدودة، انتقال واضح للمسافرين الصينيين من هوكايدو اليابانية نحو مدن سيبيريا وسانت بطرسبرغ وموسكو.

 

منذ ٢٠٢٢ تراجع حضور الزوّار الغربيين إلى روسيا ٨٠٪. روسيا استبدلتهم خلال يومين فقط بسوقٍ أكبر أربعة عشر مرّة. هذا ليس انتقاماً جيوسياسياً؛ بل حسابٌ رياضي في زمن ما بعد الهيمنة الغربية.

 

الثالث؛ ما يتكوّن ليس سوقاً سياحياً… بل بنيةٌ حضارية جديدة

 

هذا الانفتاح لا يغيّر حركة الفنادق وحدها؛ بل يغيّر البنية العميقة للتواصل البشري: تدفّقات نقدية جديدة، ضغط على العقارات في الشرق الروسي، تداخل في سلاسل التوريد، وظهور شبكات اجتماعية دائمة لا تستطيع العقوبات قطعها.

 

هذه العملية هي ما يسمّيه الباحثون الاندماج عبر الحركة البشرية؛ مرحلة تتجاوز التجارة إلى إعادة صياغة الجغرافيا السياسية انطلاقاً من الجسد الإنساني المتحرّك.

 

الرابع؛ في عالمٍ ما بعد أميركا: القوة تنتقل مع البشر لا مع الأساطيل

 

النظام الدولي لا يتغيّر بالخطابات، بل حين تتغيّر اتجاهات الحركة: من يسافر؟ أين يستقر؟ إلى أين تتدفّق رؤوس الأموال الصغيرة؟ وعندما يحصل مليار وأربعمائة مليون إنسان على دخولٍ ميسّر إلى أكبر مساحة جغرافية في العالم، يصبح التحوّل بنيوياً وغير قابل للارتداد.

 

إنه تجسيد عملي لما سمّته تحليلات «العالم بلا أميركا»: نهاية القدرة الأميركية على التحكّم في حركة الإنسان، ورأس المال، والمعنى.

 

الخامس؛ الشرق يبني شبكات، والغرب يبني عوائق

 

الغرب شيّد جدراناً: قيود تأشيرات، تحكّم بالهجرة، وأمننة العلاقات الدولية.

 

الشرق شيّد جسوراً: إعفاءات متبادلة، ممرّات اقتصادية، واتصالاً شعبياً واسعاً يتجاوز حسابات القوّة العسكرية.

 

وهكذا ينتقل مركز الثقل من ضفة إلى أخرى: ليس في النظريات… بل في الأقدام التي تعبر الحدود، وفي رأس المال الذي يتنقّل بلا إذنٍ غربي، وفي الخيال السياسي الذي بات يرى العالم من أوراسيا لا من الأطلسي.

 

السادس؛ التاريخ سيقيّد هذا اليوم

 

 

الأول من ديسمبر ٢٠٢٥ ليس مجرّد تاريخٍ إداري؛ إنه علامةٌ على أن الزمن الغربيّ الأحادي انتهى، وأن الجغرافيا السياسية تنتقل من عالم الأساطيل إلى عالم الشبكات. لحظة تُثبت أن المستقبل لمن يفتح النوافذ، لا لمن يغلق الأبواب

 

الغرب بنى جداراً. الشرق مدّ جسراً. ومَن يبني الجسر يملك المستقبل.

 

 

 

المصدر: الوفاق