تحالف الثقة وصياغة توازنات القرن الحادي والعشرين

من نيودلهي إلى موسكو.. شراكة استراتيجية تعيد تعريف العلاقات الدولية

جسّدت القمة الروسية - الهندية رؤية مشتركة لإعادة صياغة العلاقات الدولية، وتثبيت موقع كل منهما كركيزتين أساسيتين في النظام العالمي الناشئ

في عالم يشهد تحولات متسارعة، لم تعد اللقاءات الثنائية بين القوى الكبرى مجرد مناسبات دبلوماسية عابرة، بل أصبحت محطات مفصلية في رسم ملامح النظام الدولي الجديد. القمة الثالثة والعشرون بين روسيا والهند في نيودلهي جاءت لتؤكد هذا الواقع، حيث اجتمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في لحظة تاريخية تتسم بتعقيدات الحرب في أوكرانيا، الضغوط الغربية، وتنامي التوجه نحو التعددية القطبية. هذه القمة لم تكن مجرد لقاء لتبادل المجاملات، بل جسّدت رؤية مشتركة لإعادة صياغة العلاقات الدولية، وتثبيت موقع البلدين كركيزتين أساسيتين في النظام العالمي الناشئ.

 

العلاقات التاريخية من الحرب الباردة إلى التعددية القطبية

 

العلاقة بين موسكو ونيودلهي ليست وليدة اللحظة، بل تمتد جذورها إلى حقبة الحرب الباردة، حين كانت الهند تسعى إلى الحفاظ على استقلالية قرارها السياسي بعيدًا عن الاستقطاب الأميركي – السوفياتي. في تلك المرحلة، لعب الاتحاد السوفياتي دورًا محوريًا في دعم الهند عسكريًا واقتصاديًا، ما جعلها تعتمد بشكلٍ كبير على السلاح الروسي. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، واجهت العلاقة بعض التحديات، لكنها سرعان ما استعادت زخمها مع إدراك الطرفين أنّ مصالحهما الاستراتيجية تتقاطع في أكثر من مجال. القمة الأخيرة جاءت لتعيد التأكيد على هذا الإرث، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التعاون تتجاوز الدفاع إلى التكنولوجيا والاقتصاد.

 

الاقتصاد والتجارة.. البحث عن توازن جديد

 

الجانب الاقتصادي شكّل محورًا أساسيًا في القمة، إذ أعلن الطرفان عن هدف طموح يتمثل في رفع حجم التبادل التجاري إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2030. هذا الهدف يعكس إدراكًا متبادلًا بضرورة تحقيق توازن في العلاقات الاقتصادية، بعدما ظل الميزان التجاري يميل لصالح روسيا بسبب صادرات الطاقة. الهند، التي تُعد من أكبر مستوردي النفط الروسي، تسعى إلى توسيع صادراتها نحو موسكو في مجالات الزراعة، الصناعات الدوائية، وتكنولوجيا المعلومات. في المقابل، ترى روسيا في السوق الهندية فرصة لتعويض خسائرها الناتجة عن العقوبات الغربية، وتعزيز حضورها في آسيا كبديل عن الأسواق الأوروبية. هذا التوجه يعكس رغبة البلدين في بناء اقتصاد متكامل قادر على مواجهة التحديات العالمية مثل اضطراب سلاسل التوريد وتغير المناخ.

 

التعاون العسكري والتقني

 

لطالما شكّل التعاون العسكري حجر الزاوية في العلاقات الروسية – الهندية، حيث كانت موسكو المورد الأكبر للأسلحة إلى نيودلهي لعقود طويلة. لكن القمة الأخيرة أبرزت تحولًا نوعيًا، إذ لم يعد التعاون يقتصر على شراء السلاح، بل امتد إلى مشاريع مشتركة في مجال الطيران، الفضاء، و… هذا التحول يعكس إدراكًا متبادلًا بأنّ القوة في القرن الحادي والعشرين لن تُقاس فقط بترسانة الأسلحة، بل بقدرة الدول على الابتكار والتفوق التكنولوجي. من هنا، يمكن القول إنّ الشراكة الروسية – الهندية باتت تتجه نحو بناء منظومة متكاملة من التعاون العلمي والتقني، قادرة على منافسة القوى الكبرى في مجالات المستقبل.

 

استقلالية القرار الدولي

 

القمة الروسية – الهندية جاءت في وقت تواجه فيه نيودلهي ضغوطًا شديدة من واشنطن لوقف مشترياتها من النفط الروسي، وفي ظل استمرار الحرب في أوكرانيا. مودي وصف بوتين بـ«الصديق الحقيقي»، وأكد على ضرورة العودة إلى طريق السلام، فيما شدّد بوتين على أهمية الحوار والجهود المشتركة لإيجاد تسوية للنزاع. هذا التلاقي يعكس رغبة البلدين في الحفاظ على استقلالية قرارهما السياسي، بعيدًا عن الاصطفافات التقليدية. الهند، التي تسعى إلى لعب دور عالمي مستقل، تجد في روسيا شريكًا قادرًا على دعم هذا التوجه، فيما ترى موسكو في نيودلهي حليفًا استراتيجيًا يساعدها على مواجهة الضغوط الغربية.

 

 إصلاح النظام العالمي

 

من أبرز ما ميّز القمة هو التركيز على دور البلدين في المنظمات الدولية مثل «بريكس»، «منظمة شنغهاي للتعاون»، ومجموعة العشرين. بوتين ومودي شدّدا على ضرورة إصلاح مؤسسات الحوكمة الاقتصادية العالمية، بما يضمن عدالة أكبر في توزيع الموارد والفرص. كما دعوا إلى إصلاح شامل لمجلس الأمن الدولي، إذ جدّد بوتين دعم موسكو لترشيح نيودلهي لنيل مقعد دائم. هذه المواقف تعكس رغبة مشتركة في بناء نظام عالمي متعدّد الأقطاب، قائم على القانون الدولي والتنوع الحضاري، بعيدًا عن احتكار القوى الكبرى للقرار الدولي. في هذا السياق، يمكن القول إنّ القمة شكّلت خطوة متقدمة نحو إعادة رسم خريطة العلاقات الدولية.

 

الاستثمار في مجالات التكنولوجيا والابتكار

 

من أبرز الملفات التي تناولتها القمة التعاون في مجالات التكنولوجيا والابتكار، خصوصًا الذكاء الاصطناعي والفضاء. هذه المجالات ليست مجرد مشاريع تقنية، بل أدوات استراتيجية لإعادة صياغة النفوذ العالمي. الهند، بما تمتلكه من قدرات بشرية وتقنية، وروسيا، بما لديها من خبرة عميقة في الصناعات العسكرية والفضائية، يمكنهما معًا بناء شراكة تكنولوجية قادرة على منافسة القوى الكبرى، وفتح آفاق جديدة للتنمية المستدامة. هذا التعاون يعكس إدراكًا متبادلًا بأنّ المستقبل لن يُبنى فقط على القوة العسكرية أو الاقتصادية، بل على القدرة على الابتكار والتفوق العلمي.

 

مقارنة مع قمم سابقة.. استمرارية وتحوّل

 

إذا ما قورنت القمة الثالثة والعشرون بالقِمم السابقة بين روسيا والهند، يتضح أنّ هناك استمرارية في بعض الملفات وتحولًا في أخرى. ففي قمم العقد الأول من الألفية، كان التركيز منصبًا على التعاون العسكري وصفقات السلاح، بينما في قمم العقد الثاني برزت ملفات الطاقة والاقتصاد. أمّا القمة الأخيرة، فقد أظهرت انتقالًا نوعيًا نحو التكنولوجيا والابتكار، ما يعكس إدراكًا متزايدًا بأنّ المستقبل لن يُبنى فقط على القوة التقليدية، بل على القدرة على المنافسة في مجالات الذكاء الاصطناعي والفضاء. هذا التحول يبرز أنّ العلاقة بين موسكو ونيودلهي ليست جامدة، بل تتطور باستمرار وفقًا للتحديات الدولية والفرص المتاحة.

 

انعكاسات القمة على المشهد الدولي

 

القمة الروسية – الهندية لا يمكن قراءتها بمعزل عن السياق الدولي الأوسع. فهي تأتي في وقت يشهد فيه العالم إعادة تشكيل التحالفات، وتراجع النفوذ الأحادي لصالح تعددية قطبية أكثر تعقيدًا. وعبر تعزيز شراكتهما، ترسل موسكو ونيودلهي رسالة واضحة بأنّهما قادرتان على صياغة مسار مستقل، بعيدًا عن الضغوط الغربية أو الاصطفافات التقليدية. هذا المسار لا يقتصر على مصالحهما الثنائية، بل يفتح الباب أمام دول أخرى في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية للانخراط في نظام عالمي أكثر عدالة. بذلك، يمكن القول إنّ القمة لم تكن مجرد حدث ثنائي، بل محطة ذات انعكاسات واسعة على مستقبل العلاقات الدولية.

 

 ركيزتان في التوازن الدولي

 

القمة الروسية – الهندية في نيودلهي لم تكن مجرد حدث دبلوماسي، بل محطة تؤسس لمرحلة جديدة في العلاقات الدولية. من خلال تعزيز التعاون الاقتصادي، العسكري، والتكنولوجي، والسعي لإصلاح النظام الدولي، يسعى الطرفان إلى بناء شراكة استراتيجية قائمة على الثقة والاحترام المتبادل. هذه الشراكة لا تقتصر على مصالح ثنائية، بل تحمل رؤية أوسع لعالم أكثر عدالة وتوازنًا، حيث تتراجع الهيمنة الأحادية لصالح تعددية قطبية تعكس تنوع الحضارات والمصالح. في هذا السياق، يمكن القول إنّ القمة شكّلت خطوة متقدمة نحو إعادة رسم خريطة العلاقات الدولية، وجعلت من روسيا والهند ركنين أساسيين في بناء نظام عالمي جديد.

 

المصدر: الوفاق/ خاص