بين "أنطولوجيا المقاومة" و"الهندسة الأمريكية"..

قراءة في خطاب الشيخ نعيم قاسم وتفكيك ثنائية “الحُكم والخصم”

خاص الوفاق: الشيخ لا يقدّم العدو الصهيوني كعدو عسكري فحسب، بل كـ: مشروع توسّعي، ورؤية استعلائية للعالم، ومحاولة لفرض نموذج حضاري بديل يقوم على السيطرة

د. أكرم شمص

 

في خضمّ الحرب المفتوحة على لبنان، لم يأتِ خطاب الشيخ نعيم قاسم مجرد تعليق عابر على الأحداث، بل جاء كوثيقة تأسيسية تعيد تعريف الصراع من جذوره. فالشيخ قاسم، في تفكيكه للمشهد، لم يواجه العدو الصهيوني ككيان عسكري فحسب، بل واجه المظلّة السياسية التي تغطيه: الولايات المتحدة، تلك القوة التي تمارس في لبنان دوراً مزدوجاً وشديد الخطورة؛ فهي تقدّم نفسها كـ“حكم” دبلوماسي يسعى لتطبيق القرارات الدولية، بينما تمارس فعلياً دور “الخصم” الذي يدير الحرب بأدوات سياسية واقتصادية لفرض ما عجزت عنه الآلة العسكرية للعدو الصهيوني.

 

 أمريكا الحَكَم والخصم

 

تتجاوز الولايات المتحدة في مقاربتها للملف اللبناني دور “الوسيط” الدبلوماسي لتكرّس نفسها كطرف شريك في الحرب الصهيونية على لبنان، حيث يظهر التدخل الأمريكي سافراً عبر سلوك السفراء والمبعوثين الذين يتصرّفون كـ“مشرّعين خارجيين” لا كمراقبين.

 

 

ويتجلّى هذا الانخراط في تحريض مباشر وصل حدّ تقديم “نصائح عملياتية” باستهداف مراسم تشييع الشهيد الأسمى السيد حسن نصرالله (أورتاغوس)، واستخدام المنابر الإعلامية للعدو الصهيوني من قلب بيروت لتوجيه رسائل تهديد للداخل اللبناني (السفير الأمريكي في لبنان ميشال عيسى)، بالتوازي مع ممارسة ابتزاز سياسي يربط المساعدات الاقتصادية بنزع سلاح المقاومة (توم براك).

 

 

هذا السلوك يهدف جوهرياً إلى فرض إرادة خارجية تعيد هندسة هوية الدولة والمجتمع في لبنان، محوِّلاً السيادة الوطنية إلى “قيمة مشروطة” بالخضوع للمصالح الأمنية للعدو الصهيوني، ومستغلاً الانقسامات الداخلية والغطاء الدولي لمحاولة تفكيك مكامن القوة اللبنانية بدلاً من حماية الاستقرار.

 

 أولاً: الجذور مقابل السطحية.. المقاومة كمسار وجودي

 

في مواجهة السردية الأمريكية التي تحاول تصوير المقاومة كـ“حالة طارئة” أو “ميليشيا وظيفية” يجب تفكيكها ليعود الاستقرار، يستحضر الشيخ قاسم البُعد “الأنطولوجي” (الوجودي) للمقاومة. حين يستدعي الشيخ راغب حرب (رمز الرفض) والسيد عباس الموسوي (رمز البناء)، فهو ينسف فكرة “الطارئ”. وهو يقول للعالم، وللأمريكي تحديداً: نحن لسنا تنظيماً يمكن حله بقرار إداري، بل نحن تيار تاريخي، “مدادنا دماء العلماء”.

 

هذا التأسيس الفلسفي يضع “العمق التاريخي” في مواجهة “الهندسة السياسية الآنية” التي يحملها المبعوثون الأمريكيون. فالمقاومة التي تُبنى على “نور الشهادة” و“تربية الجهاد الأكبر (تهذيب النفس)” قبل “الجهاد الأصغر (القتال)” هي بنية عصيّة على التفكيك، لأنها متجذّرة في هُويّة الإنسان لا في سلاحه فقط. والشيخ قاسم يرى أن سرّ قوة حزب الله ليس السلاح ولا التمويل، بل “مجتمع موحَّد الرؤية”. هذه “الهارمونية الاجتماعية” بين القيادة الدينية والناس هي ما سمح للحزب أن يشقّ طريقه رغم الحصار والاتهامات.

 

 ثانياً: أمريكا “الخصم” بقناع “الحَكَم”… وتفكيك القرار 1701

 

تتجلّى عبقرية الخطاب في كشفه للدور الأمريكي الملتبس، وكأن الشيخ نعيم يضعه تحت عنوان: “أمريكا الحكم والخصم”، حيث يتسلّل الأمريكيون عبر الدبلوماسية والقرار 1701، محاولين تحويله من اتفاق لترتيب الأمن الحدودي إلى أداة لـ“إعادة هندسة الداخل اللبناني”.

 

يردّ الشيخ قاسم بوضوح قاطع: “الـ1701 له علاقة باللبنانيين فيما بينهم”. هنا، يستعيد الشيخ السيادة من التدويل. وهو يدرك أن واشنطن، بصفتها “الخصم”، لا تريد تطبيق القرار، بل تريد “توسيع تفسيره” ليشمل نزع عناصر القوة من المجتمع اللبناني ككل.

 

وعندما يتساءل الشيخ: “عندما يقولون نزع السلاح، هل يكتفون بذلك؟”، فإنّه يعري الهدف الأمريكي النهائي. فالمسألة ليست أمنية، بل حضارية. والمطلوب أمريكياً هو سحق “نموذج المجتمع المقاوم” (مدارس، مستشفيات، ثقافة، إعمار) لتحويل لبنان إلى دولة خاضعة، بلا “ممانعة”، وبلا هوية، تتماشى مع مشروع “الشرق الأوسط الجديد”.

 

ثالثاً: مقاومةٌ تُجيد العيش مع الجميع: نموذج الاحتضان لا العزلة

 

هنا يُبيّن الشيخ نعيم قاسم أن تجربة حزب الله لم تكن يومًا حالة انعزالية أو مشروعًا مغلقًا، بل نموذجًا حيًّا على قدرة المقاومة على التفاعل مع الجميع وبناء شراكات وطنية عابرة للطوائف. فمنذ 1997، حين جمع الحزب تحت راية المقاومة قوى علمانية وشيوعية ومسيحية وإسلامية في إطار واحد، وصولًا إلى تحالف 2006 مع التيار الوطني الحر، أثبت أنّه عنصر جامع لا مفرّق، وأنه قادر على إقامة علاقة وطنية راسخة تقوم على النهضة وحماية لبنان.

 

هذه الروحية تجلّت أيضًا في حضور كشّافة الإمام المهدي عند استقبال قداسة البابا، وفي كلمات الأطفال التي عكست تربية على الوطنية والانفتاح لا على الانغلاق. ورغم حملات التشويه ومحاولات ضرب الصورة، بقيت التجربة أقوى من السهام، لأنها ترتكز على دماء الشهداء، وعلى مجتمع تؤسّسه قيم الإخلاص والعزة، ولأنها مشروع إنساني قبل أن تكون مشروعًا سياسيًا، ولذلك بالذات يستمر الهجوم عليها، ولذلك أيضًا تبقى عصيّة على الكسر.

 

 رابعاً: الدولة والمقاومة.. التكامل في مواجهة الإلغاء

 

في ظل الضغط الأمريكي الذي يخيّر اللبنانيين بين “الدولة” أو “المقاومة” لشقّ الصف الداخلي، يطرح الشيخ قاسم معادلة “التكامل الوظيفي”: الدولة تدير الدبلوماسية، والمقاومة تحمي السيادة بالنار. وهذه المعادلة تنسف الرهان الأمريكي على الاستثمار في التناقضات الداخلية.

 

فلسفياً، يُظهر الخطاب أنّ السيادة الحقيقية لا تأتي من الرضا الخارجي (الذي يجعل السيادة مشروطة)، بل من القدرة الذاتية على الرفض. فالدولة التي لا تملك قوة تحميها من الإملاءات الأمريكية ليست دولة سيدة، بل مجرد هيكل إداري تابع.

 

ويرى الشيخ نعيم إنّ إشراك رئيس مدني في لجنة وقف إطلاق النار شكّل تراجعًا واضحًا عن الموقف الرسمي الذي ربط مشاركة المدنيين بوقف العدوان، ما جعله تنازلًا مجانيًا لم يغيّر شيئًا من النار المستمرة التي يفرضها العدو الصهيوني بدعم أمريكي.

 

وهكذا تحوّلت الخطوة إلى سقطة جديدة تُضاف إلى خطيئة الخامس من آب، فيما يبقى لبنان وحده تحت ضغطٍ لا يراعي سيادته ولا مصالحه.

 

خامساً: سفينة الوطن.. التحذير من “ثقب” الخيانة

 

يختتم الشيخ خطابه بصورة بلاغية شديدة الدلالة: “السفينة”.

 

في هذا التشبيه، يُشخّص الشيخ الخطر الوجودي. فالبحر الهائج هو المشروع الصهيوني التوسّعي؛ ولكن الخطر الحقيقي ليس الأمواج فحسب، بل “الثقب” (الخيانة) الذي قد يحدثه البعض في الداخل عبر التماهي مع الطروحات الأمريكية. وواشنطن تراهن على هذا “الثقب”، وتراهن على تحويل الانقسام السياسي إلى أداة ضغط قاتلة. وردّ الشيخ قاسم يأتي حاسماً: مصيرنا واحد، والغرق لن يستثني أحداً.

 

والوحدة الداخلية هنا ليست ترفاً أخلاقياً، بل شرط بقاء استراتيجي. والخطاب واضح في أن العدوان الصهيوني ليس مرتبطًا بسلاح المقاومة، بل بمشروع توسّعي: “العدو الصهيوني الكبير” عبر بوابة لبنان.

 

هذه المقاربة تُخرج النقاش من إطار “السلاح مشكلة داخلية” وتضعه في إطار تهديد وجودي. والشيخ لا يقدّم العدو الصهيوني كعدو عسكري فحسب، بل كـ: مشروع توسّعي، ورؤية استعلائية للعالم، ومحاولة لفرض نموذج حضاري بديل يقوم على السيطرة.

 

وهنا يتحوّل العدو الصهيوني من كيان حدودي إلى مفهوم فلسفي: إرادةٌ تسعى لتحويل المنطقة إلى مجال حيوي لمشروعه. ولذلك يقول إن العدوان ليس من أجل السلاح، بل من أجل “العدو الصهيوني الكبير” ومشروعه. والسلاح يصبح رمزاً للممانعة، لا سبب الصراع.

 

وبهذه المقاربة، يصبح الصراع تاريخياً – حضارياً، لا مجرد صراع عسكري.

 

 الخلاصة:

 

قدّم الشيخ نعيم قاسم خطاباً يتجاوز التعبئة الآنية، ليطرح مرافعة شاملة عن “معنى لبنان”. في مواجهة أمريكا التي تتصرّف كـ“حكم” لتشرعن القتل، وكـ“خصم” لفرض الاستسلام، يقدّم الشيخ مشروعاً مضاداً: لبنان القوي بمقاومته، العزيز بتاريخه، السيد بقراره.

 

والمعركة، وفق هذا المنظور، ليست على “جنوب الليطاني” فحسب، بل على سؤال أعمق: “ماذا نريد أن نكون؟” دولة تابعة بقرار مرتهن، أم مجتمعاً مقاوماً يمتلك شرف الدفاع عن وجوده؟

 

والرسالة الجوهرية: قوة المقاومة ليست في السلاح وحده، بل في المجتمع المُربّى على الجهاد والأصالة، وفي علاقة العلماء بالناس، وفي الوحدة الوطنية أمام مشروع توسّعي عابر للحدود.

 

 

 

المصدر: الوفاق/ خاص