د. بهمن اکبری
جذور التعددية: هويةٌ تتكوّن على مفترق الحضارات
منذ العصور البحرية الأولى، كانت عُمان نقطة التقاء بين سواحل الهند، وشرق إفريقيا، والجزيرة العربية. هذا الامتزاج لم يكن عابرًا؛ بل شكّل طبقة عميقة من «الهوية المتفاعلة»، حيث اندمجت التأثيرات اللغوية، والمذهبية، والسلوكية، في نسيج اجتماعي واحد.
التعددية هنا ليست تسامحًا فوقيًّا تفرضه الدولة الحديثة، بل ميراثًا اجتماعيًا يعرفه العُماني في الأسواق، وفي البحر، وفي القبائل، وفي المذاهب الثلاثة (الإباضي، السني، الشيعي) التي تعايشت دون اضطراب وجودي.
الفكرة المركزية:
عُمان لم تُنشئ تعدديتها في القصر أو البرلمان، بل في عمق المجتمع وعلى مدى قرون من التفاعل الحضاري.
من التعددية الاجتماعية إلى فلسفة الحكم
حين انتقلت عُمان إلى بناء الدولة الحديثة في النصف الثاني من القرن العشرين، لم يكن أمامها أن «تختار» التعددية؛ كانت ببساطة تعيد تنظيم ما توارثه المجتمع.
لذلك جاءت بنية الحكم في السلطنة محكومة بثلاث قواعد:
۱. اتساع الهوية الوطنية: بحيث تحتوي جميع المكوّنات دون تهديد.
۲. المشاركة الهادئة: التي تسمح بالتفاعل السياسي من دون نزاعات.
۳. الشرعية القائمة على الثقة: لا على التعبئة الأيديولوجية أو الاستقطاب.
هذه القواعد جعلت التعددية عنصرًا وظيفيًا في السياسة، لا عبئًا يجب التحكم به.
في عُمان، تعددية المجتمع سبقت مؤسسات الدولة، ولذلك استوعبتها الدولة بسهولة ولم تتعامل معها كخطر.
التعددية كقوةٍ ناعمة في السياسة الخارجية
الدول التي تمتلك في داخلها تاريخًا من التعايش، تمتلك تلقائيًا قدرة أكبر على إدارة الوساطة الإقليمية.
السلطنة اليوم ليست وسيطًا بسبب موقعها الجغرافي فقط، بل لأنها تحمل في داخلها خبرة مجتمعية في إدارة الاختلاف.
هذه الخبرة تحولت إلى ما يمكن تسميته بـ «الدبلوماسية الهادئة» القائمة على ثلاثة مرتكزات:
۱. احترام خصوصيات الآخرين: وهي قيمة متجذرة في المجتمع العُماني.
۲. إدارة النزاع بلا صخب: لأن التجربة الداخلية علمتها أن الاستقرار يولد من الهدوء.
۳. الثقة طويلة الأمد: وهي رأس المال الذي جعل مسقط قبلة للحوار في ملفات حساسة.
التعددية التاريخية في الداخل أنتجت سياسة خارجية مرنة وهادئة في الخارج.
التعددية بوصفها رافعة للحداثة العمانية
رؤية «عُمان 2040» التي دونت بید السلطان هیثم صاحب الجلاله(حفظه الله ورعاه) لم تُبن فقط على أساس التخطيط الاقتصادي، بل على قاعدة اجتماعية عميقة:
مجتمع متعدد، منفتح، وذو إرث تسامحي.
هذا الإرث يسهّل عملية الانتقال إلى الحداثة لأنه يقلل المقاومة الاجتماعية للتغيير، ويوفّر أرضية من الثقة بين الدولة والمجتمع.
ولهذا كان تحديث الدولة في عُمان تحديثًا إنسانيًا قبل أن يكون اقتصاديًا.
فالإنسان الذي نشأ في بيئة متسامحة يصبح أكثر استعدادًا لتلقي المعرفة، والانفتاح على العالم، والمشاركة في اقتصاد متداخل مع القوى الدولية.
فالتعددية ليست مجرد قيمة أخلاقية؛ إنها بنية تحتية للحداثة نفسها.
لماذا تعددية عمان «صناعة تاريخية» وليست قرارًا سياسيًا؟
يمكن تلخيص الجواب في ثلاث نقاط مركزية:
۱. العمق الزمني: التعددية ممتدة لقرون، لا لسنوات أو عقود.
۲. التجذّر الاجتماعي: المجتمع مارس التعددية قبل أن تنظّر لها الدولة.
۳. التحول إلى مؤسسة: الدولة الحديثة أعادت هندسة هذا الإرث ضمن رؤية سياسية مستدامة.
وهكذا تحوّلت التعددية من ظاهرة اجتماعية إلى ركيزة استراتيجية في بناء الدولة، وتحديد دورها الإقليمي، وصوغ صورتها أمام العالم.
خاتمة موسّعة
لا يمكن فهم «أفق عُمان» دون إدراك أن التعددية ليست مجرد سياسة، بل هوية وجدانية تشكلت عبر التاريخ، وصارت اليوم جزءًا من طريقة الدولة في التفكير والاشتغال.
بفضل هذه التعددية العميقة، استطاعت السلطنة أن تبني دولة حديثة بلا صدامات، وأن تمارس سياسة خارجية بلا ضجيج، وأن تدخل عصر الاقتصاد العالمي بلا خوف من ذوبان الثقافة أو الخصوصية.
هذا هو سرّ التجربة العُمانية:
دولة حديثة، بهوية راسخة؛ وتعددية تاريخية، تتحول إلى مشروع للمستقبل.
