وثيقة الأمن القومي الأميركية 2025

أمريكا أولاً .. نهاية شرطي العالم وبداية تراجع الهيمنة

وثيقة الأمن القومي الأميركية 2025 تكشف العقيدة الترامبية الجديدة: انكفاء عن الحروب، تشدد ضد الهجرة، وعودة لمبدأ مونرو… فهل انتهى زمن شرطيّ العالم أم بدأ فصلٌ جديد من الهيمنة؟

منذ مطلع القرن العشرين، ارتبطت صورة الولايات المتحدة في العالم بمفهوم «شرطيّ العالم»، أي القوة العظمى التي تتدخل في كل مكان، وتفرض رؤيتها على النظام الدولي عبر أدوات عسكرية واقتصادية وسياسية. غير أنّ الوثيقة الجديدة للأمن القومي التي أصدرتها إدارة دونالد ترامب في كانون الأول/ديسمبر 2025، جاءت لتطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل هذا الدور، وحول طبيعة التحوّلات التي يشهدها النظام الدولي في ظل صعود قوى منافسة كالصين وروسيا، وتراجع أهمية بعض المناطق التقليدية مثل غرب آسيا. تُجسد هذه الوثيقة، الممتدة على ثلاث وثلاثين صفحة، رؤيةً استراتيجية شاملة تسعى إلى إعادة رسم موقع الولايات المتحدة في العالم، وتحديد أولوياتها في ضوء التحديات الداخلية والخارجية.

 

السياق التاريخي لإصدار الوثيقة

 

منذ إدارة هاري ترومان بعد الحرب العالمية الثانية، دأبت كل إدارة أميركية على إصدار وثيقة للأمن القومي في عامها الأول، لتكون بمثابة «خارطة طريق» تُحدد أولويات السياسة الخارجية والدفاعية. هذه الوثائق عادة ما تعكس المزاج العام للنخبة الحاكمة، وتترجم التوازنات بين المؤسسات العسكرية والأمنية والاقتصادية. في حالة إدارة ترامب، تأتي الوثيقة في سياق عالمي متوتر، حيث تتقاطع أزمات الهجرة في أوروبا، وصعود الصين كقوة اقتصادية منافسة، واستمرار الحرب الروسية – الأوكرانية، مع إرث طويل من التدخلات الأميركية في غرب آسيا.

 

لكن ما يميز هذه الوثيقة هو أنها لا تكتفي بتكرار الخطوط العريضة السابقة، بل تحمل انعطافة واضحة نحو تقليص التدخلات العسكرية المباشرة، والتركيز على الداخل الأميركي، خصوصاً في ما يتعلق بالهجرة والهوية الثقافية. هذا التحول يعكس صعود تيارات اليمين الشعبوي داخل الولايات المتحدة، وتأثيرها على صياغة السياسات الكبرى.

 

أوروبا بين «الزوال الحضاري» وضغوط الهجرة

 

من أبرز ما ورد في الوثيقة هو التحذير من «الزوال الحضاري» لأوروبا نتيجة الهجرة، وهي عبارة تحمل دلالات أيديولوجية عميقة، إذ تعكس خطاب اليمين المتطرف الذي يرى في تدفق المهاجرين تهديداً لهوية القارة العجوز. هذا الخطاب ليس جديداً في الولايات المتحدة، لكنه يكتسب زخماً غير مسبوق حين يُدرج في وثيقة رسمية للأمن القومي.

 

الوثيقة لا تكتفي بالتحذير، بل تدعو إلى الوقوف بقوة في وجه الحكومات الأوروبية التي تتبنى سياسات هجرة منفتحة، وتُلمّح إلى أنّ غير الأوروبيين قد يتحولون إلى أغلبية في بعض دول الناتو في عقود قليلة. هذا الطرح يعكس قلقاً أميركياً مزدوجاً: من جهة، خشية من تغيّر البنية الديموغرافية والسياسية في أوروبا، بما قد يؤثر على تماسك الحلف الأطلسي؛ ومن جهةٍ أخرى، رغبة في دفع الأوروبيين نحو تبني سياسات أكثر تشدداً، بما ينسجم مع مزاج ترامب وإدارته في الداخل الأميركي.

 

الصين بين المنافسة الاقتصادية والاحتواء الاستراتيجي

 

الوثيقة تبقي على الصين كـ«قوة منافسة» رئيسية، لكنها تميل إلى حصر الصراع معها في الإطار الاقتصادي. هذا التحول يعكس إدراكاً أميركياً بأن المواجهة العسكرية المباشرة مع الصين ستكون مكلفة وغير مضمونة النتائج، في حين أن المنافسة الاقتصادية والتكنولوجية قد تحقق أهدافاً أكثر واقعية.

 

الوثيقة تشدد على أهمية «موازنة علاقة أميركا الاقتصادية مع الصين»، و«استعادة الاقتصاد الأميركي لاستقلاليته»، عبر مبدأي «المعاملة بالمثل» و«الإنصاف». هذا يعني أن واشنطن ستسعى إلى فرض شروط أكثر صرامة على التجارة مع بكين، وإلى إعادة توطين الصناعات الحيوية داخل الولايات المتحدة، بما يقلل من الاعتماد على سلاسل التوريد الصينية.

 

لكن في الوقت نفسه، توكل الوثيقة «دوراً أمنياً أكبر» إلى حلفاء واشنطن في آسيا، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، وتشجع الهند على الإسهام في أمن منطقة المحيطين الهندي والهادئ. هذا يعكس استراتيجية «الاحتواء غير المباشر»، حيث تعتمد الولايات المتحدة على شبكة من الحلفاء لردع الصين، من دون الانخراط في مواجهة مباشرة. غير أن هذه الاستراتيجية قد تضع الحلفاء في مواجهة ضغوط هائلة، خصوصاً في قضايا حساسة مثل تايوان.

 

غرب آسيا بين التراجع الاستراتيجي وضمان أمن الكيان الصهيوني

 

تشير الوثيقة بوضوح إلى رغبة إدارة ترامب في تجنّب الانخراط في أدوار عسكرية واسعة أو مباشرة في غرب آسيا، وهو ما يعكس إدراكًا متزايدًا لتكاليف التدخلات السابقة وفشلها في تحقيق نتائج مستدامة. ومع ذلك، فإن هذا الانكفاء لا يعني انسحابًا كاملًا، إذ تؤكد الاستراتيجية على ثوابت لا يمكن التخلي عنها، وفي مقدمتها ضمان أمن الكيان الصهيوني والحفاظ على تفوقه العسكري والسياسي في المنطقة.

 

وتسعى واشنطن إلى تحقيق ذلك عبر أدوات غير عسكرية، مثل تعزيز العلاقات الاقتصادية والتكنولوجية مع دول الإقليم، وتوظيف الاستثمارات المالية كوسيلة لتثبيت النفوذ وضمان استمرار الاعتماد المتبادل.

 

هذا التراجع الاستراتيجي يفتح المجال أمام قوى أخرى، إقليمية ودولية، لملء الفراغ الذي تتركه واشنطن، سواء عبر النفوذ السياسي أو عبر التوسع الاقتصادي والتكنولوجي. ومع ذلك، يبقى أمن الكيان الصهيوني خطًا أحمر في العقيدة الأميركية، ما يجعل أي انسحاب أو تقليص للدور الأميركي مشروطًا بالحفاظ على هذه الأولوية المطلقة.

 

أميركا اللاتينية وتحديث «مبدأ مونرو»

 

الانعطافة الكبرى في الوثيقة تتمثل في الإشارة إلى تحديث «مبدأ مونرو»، الذي أصدرته الولايات المتحدة عام 1823، واعتبر أميركا اللاتينية منطقة محظورة على النفوذ الأجنبي. التحديث المقترح، الذي يُطلق عليه «ملحق ترامب»، ينص على أنّ الولايات المتحدة ستسعى إلى الوصول إلى موارد ومواقع استراتيجية في القارة اللاتينية، لضمان بقاء دول المنطقة مستقرة بما يكفي لمنع الهجرة الجماعية إلى الولايات المتحدة.

 

هذا التوجه يعكس إدراكاً أميركياً بأن الهجرة من أميركا اللاتينية تمثل تحدياً داخلياً كبيراً، وأن معالجة هذا التحدي تتطلب سياسات خارجية جديدة. لكنه في الوقت ذاته يعيد إنتاج منطق الهيمنة التقليدية، حيث تُعامل دول المنطقة كـ«حديقة خلفية» للولايات المتحدة، ويُنظر إليها من زاوية وظيفية مرتبطة بأمن الداخل الأميركي.

 

نقد السياسات السابقة وتبني الإصلاح المحلي

 

من بين العلامات الفارقة في الوثيقة هو نقدها لسياسات الإكراه العسكري والسياسي التي تبنتها إدارات سابقة، خصوصاً إدارة جورج بوش الإبن، بذريعة نشر الديمقراطية. الوثيقة تدعو إلى الابتعاد عن شكل الحروب القديمة التي استمرت لعقود وأسفرت عن تكاليف كبيرة، والتركيز على تشجيع الإصلاحات التي تظهر بشكل طبيعي محلّي من دون فرض نماذج خارجية.

 

هذا الطرح يعكس يثير تساؤلات حول مدى جدية الولايات المتحدة في احترام خصوصيات الشعوب، أم أنّ الأمر مجرد تكتيك لتقليل التكاليف من دون التخلي عن الهيمنة.

 

انعكاسات الوثيقة على النظام الدولي

 

تشير الوثيقة الجديدة للأمن القومي الأميركي إلى محاولة لإعادة تعريف دور الولايات المتحدة في النظام الدولي، بما ينعكس على مختلف المناطق الحيوية. ففي أوروبا، يُتوقع أن تزداد الضغوط لاعتماد سياسات أكثر تشدداً تجاه الهجرة، الأمر الذي قد يفاقم الانقسامات الداخلية ويضعف الاتحاد الأوروبي. أما في آسيا، فإن الحلفاء سيجدون أنفسهم أمام مسؤوليات أمنية متنامية في مواجهة الصين، بما قد يطلق سباق تسلّح إقليمي. في غرب آسيا، لم تعد واشنطن تنخرط بالزخم السابق، إذ تقلّص حضورها إلى أولويات محدودة تتمثل أساسًا في ضمان أمن الكيان الصهيوني وحماية تفوقه، أمّا في أميركا اللاتينية، فيُعاد إحياء منطق «الحديقة الخلفية» عبر تدخلات اقتصادية وسياسية تهدف إلى ضبط مسارات الهجرة والحفاظ على النفوذ التقليدي لواشنطن هناك.

 

البُعد الأيديولوجي للوثيقة

 

لا يمكن قراءة الوثيقة بمعزل عن السياق الأيديولوجي الذي أنتجها. فهي تحمل بصمات واضحة لليمين الشعبوي الأميركي، الذي يركز على الهوية الثقافية، ويخشى من الهجرة والتعددية، ويرى في الصين تهديداً اقتصادياً وجودياً. هذا البُعد الأيديولوجي يجعل الوثيقة أقرب إلى بيان سياسي موجّه للداخل الأميركي، أكثر من كونها خطة عملية للسياسة الخارجية. ومع ذلك، فإنّ إدراج هذه الأفكار في وثيقة رسمية يمنحها شرعية، ويجعلها جزءاً من الخطاب الرسمي للدولة.

 

أمريكا منهكة ومحطمة

 

في المحصلة تُعلن الاستراتيجية الجديدة لإدارة ترامب الثانية بأن الولايات المتحدة لم تعد ترغب في لعب دور شرطي العالم. يعكس هذا التحول تراجع القوة الأمريكية وتزايد القيود البنيوية التي تحد من هيمنتها الدولية. الهزائم في العراق وليبيا وغرب آسيا كلفت واشنطن تريليونات وأضعفتها سياسيًا واجتماعيًا.والأزمات الداخلية مثل الدين العام وتآكل الطبقة الوسطى وعدم المساواة قوضت الأُسس الداخلية للقوة، المنافسة مع الصين وروسيا وأزمة أوكرانيا أبرزت محدودية السيطرة الأمريكية حتى بين الحلفاء الأوروبيين. النتيجة هي أن أمريكا تتراجع نحو الداخل، مركزةً على حماية مصالحها الوطنية وإيقاف الانحلال بدل الحفاظ على التفوق.

المصدر: الوفاق/ خاص

الاخبار ذات الصلة