صناعة البتروكيماويات الإيرانية تحقق الإكتفاء الذاتي رغم العقوبات..

فرصة من قلب التحدّيات

الوفاق/ تشكّل صناعة البتروكيماويات الإيرانية، بطاقتها الإسمية الإنتاجية السنوية البالغة 6/96 مليون طن من المنتجات، وحصتها التي تفوق 30% في الصادرات غير النفطية للبلاد، ليس أحد أركان الاقتصاد المقاوم فحسب، بل رمزًا حقيقيًا لبناء القدرات الوطنية في مواجهة الضغوط الخارجية.

قد أنشأت هذه الصناعة، التي شهدت في العقود المنصرمة استثمارات هائلة في عسلوية وماهشهر ومناطق أخرى (جنوب إيران)، سلسلة قيمة واسعة تمتد من الموارد الهيدروكربونية إلى البوليمرات والمواد الكيميائية المتطورة، وهي اليوم في موقع استراتيجي، حيث تحولت العقوبات الدولية -بدلاً من أن تُضعفها- إلى محفز لتسريع الابتكار والاكتفاء الذاتي؛ لكن هذا التحول لم يكن عفويًا أو غير مخطط له. إن جذوره تعود إلى تجارب فترة الدفاع المقدس (هجوم الجيش البعثي الصدامي على إيران)؛ تلك الفترة التي كان فيها المهندسون الإيرانيون، تحت ظروف الحصار، يقومون بإعادة تأهيل المعدات المتضررة، بل وترقيتها أيضًا.

 

إن ثقافة “نحن نستطيع”، التي أصبحت اليوم متأصلة في مجمعات البتروكيماويات، كانت قد أنشأت وحدات التصنيع الداخلي داخل المصانع قبل عقوبات عقد التسعينيات الشمسي (الألفين المیلادي).

 

ومع ذلك، فقد حوّل تشديد القيود الدولية هذه القدرات الكامنة إلى استراتيجية وطنية. وإن استبدال الواردات بالإنتاج المحلي لم يكن مجرد إجراء اضطراري، بل كان يهدف إلى تحقيق التنافسية العالمية.

 

وفي هذا السياق، يجب عدم إغفال دور وزارة النفط في توجيه صناعة البتروكيماويات نحو الاكتفاء الذاتي؛ إذ قبل مديرو هذه الصناعة مخاطر استخدام المنتجات المحلية المُنتَجة للمرة الأولى، وهي منتجات كان يتعين عليها -قبل دخولها خطوط الإنتاج- اجتياز اختبارات صارمة للسلامة والمعايير الدولية.

 

إن هذه القرارات تجاوزت مجرد الإدارة التقنية، إذ تطلبت رؤية استراتيجية عميقة، وإدراكًا بأن كل محفز محلي الصنع ليس مجرد مكون، بل خطوة نحو الاستقلال التكنولوجي.

 

رغم أن الوصول إلى الاستقلال التكنولوجي في صناعة البتروكيماويات كان يبدو مهمة صعبة دون تعاونات دولية وفي ظل تشديد العقوبات، إلا أن الإجراءات التي تم اتخاذها في السنوات الماضية قد قرّبت هذه الصناعة عدة خطوات من الأهداف التي تسعى إليها؛ ومع أن الطريق غير مستوٍ، إلا أن قبول المخاطر والثقة في الشركات المصنعة المحلية والشركات القائمة على المعرفة لم يؤد فقط إلى عدم توقف الإنتاج في صناعة البتروكيماويات، بل أضاف إلى طاقتها الإنتاجية كل عام، كما تحركت سلسلة إنتاج المنتجات نحو إنتاج ذي قيمة مضافة أعلى.

 

يجب الإلتفات أيضًا إلى هذه المسألة؛ فهذه الصناعة التي تضم أكثر من 70 مجمعًا إنتاجيًا نشطًا قد واجهت في السنوات الأخيرة تحديات متعددة، بدءًا من تقلبات أسعار المواد الخام ومحدودية توريد الغاز في المواسم الباردة، وصولاً إلى عوائق الوصول إلى التكنولوجيات الحديثة وقطع الغيار والأسواق المالية الدولية؛ لكن هذه التحديات نفسها خلقت فرصة لإعادة نظر جذرية في نموذج التطوير، فبدلاً من الاعتماد على الواردات، تم التركيز على تعميق التصنيع الداخلي. وكانت النتيجة تعاونًا واسعًا مع عشرات الشركات القائمة على المعرفة والمصنعين المحليين، واستثمارات موجهة في البحث والتكنولوجيا، وإنشاء نظام بيئي للابتكار في المناطق التشغيلية، مثل حدائق العلوم والتكنولوجيا المتخصصة في البتروكيماويات.

 

إحدى النقاط المحورية في هذا المسار هي قانون قفزة إنتاج الشركات القائمة على المعرفة، الذي يُعدّ أشمل قانون لدعم الابتكار، حيث أنشأ فضاء ملائمًا لنمو الشركات التكنولوجية.

 

كما ساهمت وزارة النفط، من خلال إنشاء واحات العلوم والتكنولوجيا المتخصصة، وصناديق البحث والتكنولوجيا، وآليات نقل المعرفة من الجامعات إلى الصناعة، في تسريع هذه الحركة.

 

الهدف واضح: إنتاج منتجات لا تلبي الاحتياجات الداخلية فحسب، بل تكون قادرة على المنافسة في الأسواق الإقليمية والعالمية. اليوم، لم تعد إيران مستهلكًا فحسب، بل مصدّرًا للمحفزات والمواد الكيميائية المتقدمة والمعرفة التقنية إلى دول الجوار في آسيا الوسطى، وحتى ما هو أبعد من ذلك.

 

مدير البحث والتكنولوجيا والتصنيع الداخلي في الشركة الوطنية للصناعات البتروكيماوية “قدرت الله نصيري” يوضح في هذا الحوار كيف استطاعت صناعة البتروكيماويات، في ظروف صعبة، مواصلة مسيرة تطوير التكنولوجيا والتصنيع الداخلي.

 

كيف استطاعت صناعة البتروكيماويات، في ظروف العقوبات، الحفاظ على شعلة تطوير التكنولوجيا والتصنيع الداخلي مضاءة؟

 

بناءً على التجارب القيّمة في فترة الدفاع المقدس، وتأكيدات سماحة قائد الثورة الاسلامية على تحقيق الاكتفاء الذاتي، كانت وحدات التصنيع الداخلي قد تشكلت في العديد من مجمعات البتروكيماويات قبل سنوات من فرض العقوبات. وبالتالي، كانت ثقافة «نحن نستطيع» موجودة في تصنيع المعدات والمحفزات والمواد الكيميائية.

 

ومع بدء العقوبات، وإيمان المديرين الرفيعي المستوى في الصناعة العميق بالقدرات الداخلية، تسارع اتجاه استبدال المعدات المستوردة بنظيراتها المحلية، وإن إقرار القوانين الداعمة للتصنيع الداخلي، وتطوير الشركات القائمة على المعرفة، وتنفيذ قانون قفزة إنتاج الشركات القائمة على المعرفة، قد أتاح مساحة أوسع للتعاون الواسع مع المصنعين المحليين.

 

اليوم، يتعاون أكثر من 1700 شركة قائمة على المعرفة ومصنع محلي مع صناعة البتروكيماويات، وفي العام الماضي وحده، خُصص أكثر من 21 ألف مليار تومان لتطوير هذه القدرات.

 

تم إحصاء قائمة السلع المستوردة بالتعاون المشترك مع وزارة الصناعة والمناجم والتجارة وجمارك الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويجري تنفيذ برنامج خماسي لإنتاج الجزء الأكبر من هذه السلع داخليًا.

 

ويلتزم جميع المصنعين بمراعاة المعايير الصارمة للصناعة، ويتم تقييمهم بشكل مستمر من قبل خبراء متخصصين، وسيتم قريبًا نشر قائمة الشركات التي تم استخدام منتجاتها في هذه الصناعة بجودة مرضية.

 

كيف تحول تهديد العقوبات إلى فرصة مستدامة للتطوير الداخلي المنشأ؟

 

إنّ العامل الأهم في النجاح كان ثقة مديري الصناعة بالقدرات الهندسية والتصنيعية للمهندسين والمصنعين المحليين.

 

وإن اتخاذ قرار استخدام منتجات تُصنع للمرة الأولى يتطلب شجاعة واستشرافًا للمستقبل والتزامًا كاملاً بمتطلبات السلامة والمعايير الدولية. كما إن أصغر خطأ في هذه الصناعة يمكن أن يترتب عليه عواقب وخيمة؛ وبالتالي، يتم إدخال كل منتج محلي إلى الدورة التشغيلية فقط بعد اجتيازه اختبارات صارمة.

 

على سبيل المثال، نجح مجمع بتروكيماويات نوري في السنوات الثلاث أو الاثنتين الماضيتين في توطين 92 مادة كيميائية ومحفزًا مطلوبًا له بالكامل، وهو إنجاز قيّم. كما أن مشروع تحويل الميثانول إلى بروبيلين وبولي بروبيلين بمعرفة تقنية شركة البحث والتكنولوجيا البتروكيماوية، الذي يُنفذ في إسلام آباد غرب، يُعدّ نموذجًا لتحويل المعرفة إلى منتج صناعي.

 

ما دور العقوبات في تحديد التوجه الاستراتيجي التكنولوجي في صناعة البتروكيماويات؟

 

لقد أثّرت العقوبات بلا شك في تشكيل بعض الأولويات التكنولوجية؛ لكن صناعة البتروكيماويات كانت ستضطر، حتى في غيابها، إلى التحرك نحو التكنولوجيات الحديثة. إن المنافسة العالمية والمتطلبات البيئية، بما في ذلك خفض انبعاثات الغازات الدفيئة وتحسين استهلاك الطاقة، تجعل مسيرة تطوير التكنولوجيا أمرًا لا مفر منه.

 

وفي هذا السياق، تم وضع إنشاء واحات العلوم والتكنولوجيا المتخصصة في البتروكيماويات في المناطق التشغيلية، وتوفير نظام بيئي للابتكار، على جدول الأعمال، لكي يتسارع تطوير التكنولوجيات المتقدمة.

 

ما هي الأهداف التي تسعى إليها وثيقة تطوير التكنولوجيا في صناعة البتروكيماويات، التي من المقرر أن تُنجز في مارس 2026؟

 

تُعدّ هذه الوثيقة خارطة الطريق التكنولوجية لصناعة البتروكيماويات، وقد أُعدت بما يتوافق مع الوثائق العليا مثل؛ السياسات العامة للطاقة، وسياسات الاقتصاد المقاوم، وقانون قفزة إنتاج الشركات القائمة على المعرفة، وبرامج تطوير صناعة البتروكيماويات.

 

تشمل الأهداف الكبرى للوثيقة؛ استكمال سلسلة القيمة وزيادة القيمة المضافة، وتحديد وتصنيع الأصناف الاستراتيجية، وتعميق التصنيع الداخلي، وتطوير التكنولوجيات الحديثة، وتعزيز التنافسية العالمية.

 

في الواقع، تغطي هذه الوثيقة خمسة مجالات استراتيجية، من بينها ترقية نظام الابتكار، ورسم خارطة طريق التكنولوجيا، وذكاء التكنولوجيا.

 

ما هو دور الشركات القائمة على المعرفة في هذا المسار، وكيف تدعمها وزارة النفط؟

 

يُعدّ قانون قفزة إنتاج الشركات القائمة على المعرفة أحد أشمل القوانين الداعمة للابتكار. كما تدعم وزارة النفط هذه الشركات من خلال إنشاء آليات مثل: واحة العلوم والتكنولوجيا لصناعة النفط، وصندوق البحث والتكنولوجيا، والتفاعل الوثيق مع معاونية العلوم والتكنولوجيا في رئاسة الجمهورية، وتخصيص المشاريع والتسهيلات.

 

والهدف الرئيسي هو تعزيز الشركات التي تستطيع تقديم منتجات تنافسية على المستوى الإقليمي والعالمي. وقد نجحت العديد من الشركات القائمة على المعرفة اليوم في تصدير منتجاتها، بما في ذلك المحفزات، إلى الأسواق الدولية.

 

كيف يُتابع تقليل الاعتماد على التكنولوجيات الأجنبية، وما هو النهج المعتمد؟

 

يجري إعداد قائمة بالمعدات الحيوية والحساسة بناءً على مبادئ الصلابة والمرونة على مستوى صناعة البتروكيماويات. وفي مجال التكنولوجيا، ليس الهدف العزلة، بل تعزيز القدرات الداخلية للمنافسة على المستوى العالمي.

 

ولهذا السبب، يُولى اهتمام لاستخدام آلية «نقل التكنولوجيا» من الشركات الأجنبية المرموقة في المشاريع الوطنية، حتى تتمكن الشركات الإيرانية من الوصول إلى المعرفة التقنية الحديثة، وتوطينها تدريجيًا.

 

ما هو مستوى توطين المعدات في صناعة البتروكيماويات حاليًا؟

 

بناءً على المعلومات المقدمة من وزارة الصناعة والمناجم والتجارة، تم تسجيل تقدم يزيد عن 70% في العديد من مجالات التصنيع الداخلي. المجال الوحيد الذي يتطلب اهتمامًا خاصًا هو قطاع الكهرباء والأدوات الدقيقة، حيث يتم إعداد برامج لتمكين الشركات المحلية فيه.

 

ما هي آفاق تطوير التكنولوجيا في صناعة البتروكيماويات الإيرانية؟

 

في حال توفير المواد الخام بشكل مستدام، ومع التنفيذ الكامل لوثيقة تطوير التكنولوجيا، وإرساء نظام الابتكار، وتقديم دعم جاد للشركات القائمة على المعرفة والجامعات والمصنعين المحليين، يمكن تصور مستقبل مشرق جدًا لهذه الصناعة.

يمكن للجامعات والنخب والشركات التكنولوجية أن تلعب دورًا محوريًا، ليس فقط في نقل التكنولوجيا، بل أيضًا في خلق تكنولوجيات جديدة.

 

ما هي آفاق المستقبل في جملة واحدة؟

 

كانت العقوبات مصباح تحذير؛ لكن هدفنا هو تحويل هذا المصباح إلى مصدر لتعزيز القدرات الداخلية، وتوفير أرضية أكثر من أي وقت مضى لنمو الشركات القائمة على المعرفة والصناعات الإيرانية.

 

المصدر: الوفاق خاص

الاخبار ذات الصلة