بمناسبة وفاة الدكتورة أشرف بروجردي

العلم سلطان؛ في رثاء سيدة من سلالة الفكر

اليوم، فقدان الدكتورة أشرف بروجردي ليس فقدان مديرة أو شخصية ثقافية فحسب، بل فقدان مفكرة كانت ترى العلم خط البداية للحركة، تمنح المؤسسات روحًا، وتفكر في مستقبل هذا الوطن.

د. عباس خامه يار

 

المستشار الثقافي الإيراني الأسبق في لبنان

 

خبر وفاة السيدة أشرف بروجردي لم يكن بالنسبة لي مجرد حزن على فقدان شخصية ثقافية مثابرة، بل هو خسارة إنسانة شريفة، مفكرة، ورفيقة في سنوات طويلة من التعاون والمعرفة.

 

لا يمكن اختصار السيدة بروجردي في المناصب والعناوين الرسمية؛ فهي قبل كل شيء إنسانة دقيقة، مسؤولة ومتعهدة، ترى الثقافة لا كشعار بل كواجب اجتماعي وأخلاقي.

 

طوال سنوات التعاون، كان أبرز ما يميز سلوكها وكلامها هو الجدية الممزوجة بالتواضع، والحزم المصحوب بالاحترام.

 

كانت متأنية في اتخاذ القرارات، مؤمنة بالحوار، وتقدّر الرأي الخبير والتجربة الجماعية.

 

عرفتها منذ سنوات طويلة في مجالات ثقافية واجتماعية وأحيانًا سياسية، لكن معرفتي بها اتخذت معنى أعمق حين تولّت مسؤولية منظمة الوثائق والمكتبة الوطنية، حيث أصدرت قرارًا نادرًا بتكليفي ممثلًا للمكتبة الوطنية في لبنان مع احتفاظي بمنصبي كمستشار ثقافي.

 

كان ذلك القرار دليلًا على رؤيتها المختلفة وثقتها الواعية وإيمانها بارتباط المؤسسة الثقافية بالحياة الفكرية والعالمية لإيران، وكذلك بالدبلوماسية الفكرية والعلمية.

 

هذا التعاون كشف لي أكثر عن أبعاد شخصيتها الأخلاقية والعلمية. كانت ترى المكتبة الوطنية ليس مجرد مؤسسة إدارية أو مخزن وثائق، بل “ملاذًا لأصحاب الفكر”، بيتًا ثانيًا للمفكرين، مكانًا لعرض الأفكار وسماعها ونقدها وتطويرها.

 

هذا التصور تجلّى بوضوح في كلمتها خلال حفل إطلاق الجزء الأول من كتابي «زخم وزيتون، يادكاران وروزكاران» أي «زخم وزيتون؛ تذكارات وأزمان»، الذي استضافته بكرم، في أيام صعبة وغامضة من جائحة كورونا.

 

كانت كلمتها بيانًا فكريًا حول الثقافة والعلم ومسؤوليتنا التاريخية، تحدثت فيه بهدوء ووقار، وبأسلوب رصين وحازم، عن همّ إيران، وعن همّ الثقافة والعلم والفكر.

 

أكدت أن المجتمع الذي لا يستند إلى دعامة قوية “تهبّه كل ريح”، ويظل بلا طمأنينة قلبية، مجتمع يفتقد الركن الوثيق ويتيه بلا سند فكري.

 

في نظرها، المكتبة الوطنية هي “الذاكرة الوطنية”، ذاكرة لا ينبغي أن تُحصر في مبنى، بل يجب أن تكون في كل بيت إيراني.

 

لذلك كانت تدعو بجدية إلى توسيع الوصول، ربط المكتبات، رقمنة المصادر، والاستفادة من الفرصة التاريخية التي وفرتها التكنولوجيا، والتي سرّعت كورونا من وتيرتها.

 

ملايين الكتب والوثائق والمخطوطات والموارد الرقمية كانت بالنسبة لها أمانة عامة وفرصة لا يجوز التفريط بها.

 

جذور كل هذه الجهود كانت في إيمانها العميق بالعلم؛ حيث كانت تؤكد على المقولة الخالدة “العلم سلطان”، وترى في العلم مصدر قوة: قوة الاستدلال، قوة الإقناع، قوة المحاججة، وفي النهاية قوة الهداية.

 

في نظرها، العالم لا بد أن يكون قويًا، لأن فكره يصنع الطريق، والتاريخ شاهد دائم على الدور الإرشادي للعلماء.

 

من هذا المنطلق، أولت اهتمامًا خاصًا للتاريخ الشفوي، مؤكدة ضرورة تسجيل اللحظات والأحداث والتجارب، ورأت فيه ضرورة وطنية لا أمرًا هامشيًا.

 

كان بالنسبة لها ساحة لرواية القصص والشخصيات والاتجاهات، رواية للتعرّف، للاستفادة من التجارب، لتكرار المفيد وتجنب الأخطاء.

 

الذكريات عندها ليست مجرد ماضٍ للتوقف أو للحسرة، بل هي للأمام، تُكتب لا كحكايات بل كتوثيق للأحداث والشخصيات والتجارب من أجل الفهم والعبرة واختيار المستقبل بوعي.

 

كانت ترى كتاب «زخم وزيتون» في هذا الأفق: إحياء الذكريات، استدعاء الأصوات، ووضع القارئ في قلب التاريخ، كأنه حاضر في المجلس ويستفيد من خبرة المفكرين.

 

اليوم، فقدان الدكتورة أشرف بروجردي ليس فقدان مديرة أو شخصية ثقافية فحسب، بل فقدان مفكرة كانت ترى العلم خط البداية للحركة، تمنح المؤسسات روحًا، وتفكر في مستقبل هذا الوطن.

 

كانت تؤمن أن طريق الكمال الفردي، وإنماء الفكر الجماعي، بل وإنقاذ البشرية، يمر عبر العلم والتفكير. ذكراها تذكير بجيل تقدّم بالثقافة عبر الالتزام والصبر والفهم التاريخي.

 

رحلت، لكن رؤيتها للعلم، للمكتبة الوطنية، للتاريخ الشفوي، ولمسؤولية أهل الفكر، ما زالت قادرة أن تكون منارة طريق.

 

والبيت الذي تحدثت عنه ما زال قائمًا، والذاكرة التي أرادت أن تكون متاحة للجميع ما زالت حيّة.

 

رحمها الله، وليكن اسمها خالدًا في الذاكرة الثقافية لإيران.

 

المصدر: الوفاق