يلدا.. تراث إيراني قديم ورسالة عابرة للزمان

في ليلةٍ تمتلئ بالدفئ والحميمية، يجتمع الإيرانيون حول مائدةٍ مزينة بالفواكه الحمراء والشعر الفارسي، ليحيوا واحدة من أقدم تقاليد بلادهم؛ "ليلة يلدا"، أو ما يُعرف بـ"شَب يَلدا" (Shab-e Yalda).

ان ليلة 30 من شهر “آذر” في التقويم الفارسي، التي توافق 21 كانون الاول/ديسمبر من كل عام، هي ليلة بدء التقويم الشتوي وأطول ليلة في السنة، حيث يطلق عليها الايرانيون “شب يلدا”.

 

 

تُعد “يلدا” من أعمق الجذور الثقافية الإيرانية؛ فهي ليلة بدء التقويم الشتوي، لحظة ذروة الظلام والبرد في نصف الكرة الشمالي، لكنها لدى الإيرانيين رمزٌ لانتصار النور على الظلام، وولادة الشمس من جديد. وقد احتفل بها الأجداد باعتبارها بشارة بعودة الأيام الأطول وانبلاج فصل الربيع.

 

 

في الثقافة الإيرانية، لا تمثّل ليلة يلدا مجرد أطول ليلة في السنة، بل هي مناسبة قديمة تُقام حول “سفرةٍ رمزية” يجتمع فيها أفراد العائلة لسرد القصص والاحتفاء معا، لتصبح فرصة ثمينة لتقوية الروابط العاطفية والاجتماعية، وضوء من الأمل والدفء في عالمٍ متوتر ومتسارع.

 

 

جذور تاريخية تمتد لآلاف السنين

 

 

يرجع أصل الاحتفال بـ “يلدا” إلى عصور ما قبل الإسلام في إيران، وتحديدا الى الحضارة الزرادشتية، حيث كان الإيرانيون القدماء يؤمنون بأن هذه الليلة تمثّل ولادة “ميثرى” (Mithra)، إله النور والعدالة، الذي يهزم ظلام الشتاء ليُعيد النور الى الأرض.

 

 

وتشير كلمة “يلدا” الى الكلمة السريانية “يَلدَ” التي تعني “الميلاد” او “الولادة”، مما يعكس التقاء الثقافات في بلاد فارس عبر العصور.ويرى العالم الإيراني الشهير، أبو ريحان البيروني أن يلدا تعني “ولادة الشمس”.

 

 

يلدا..تراث ايراني قديم ورسالة عابرة للزمان

 

 

طقوسٌ تناقلتها الأجيال

 

 

في ليلة يلدا، يجتمع أفراد العائلة – خصوصا الشباب مع كبار السن – بعد غروب الشمس، ويجلسون سويا حتى طلوع الفجر، في تقليد يُعرف بـ”بیدار ماندن” اي السهر بالعربية. وتُزيّن المائدة بـالرُّمّان والبطيخ الأحمر، رمزا للحياة والنور والخصوبة، إضافة الى المكسرات والحلويات التقليدية. ولا يكتمل السهر دون قراءة مقاطع من ديوان حافظ، الشاعر الفارسي العظيم، حيث يُعتقد أن فتح الديوان عشوائيا في هذه الليلة يمنح قارئه نبوءة عن مستقبله.

 

 

يلدا في العصر الحديث

 

 

اليوم، يحتفل الإيرانيون داخل البلاد وخارجها بهذه المناسبة، حتى إن بعض المجتمعات الفارسية في أوروبا وأمريكا الشمالية بدأت تنظيم فعاليات عامة لتعريف الآخرين بهذه العادة الجميلة. وفي السنوات الأخيرة، دعت منظمة اليونسكو إلى إدراج “ليلة يلدا” ضمن التراث الثقافي غير المادي للبشرية، تقديرا لأهميتها الرمزية والتاريخية.

 

 

ورأى خبير شؤون الأسرة،غلامرضا عبّاسي، في حديث لإرنا، ان ليلة يلدا تُجسّد مفاهيم أعمق من مجرد احتفال موسمي، او ظاهرو فلكية ؛فهي جزءٌ جوهري من الهوية الإيرانية وتعبير عن الانتصار المستمر للنور على الظلام، والحياة على الموت، والأمل على اليأس.

 

 

وتابع: وعلى الرغم من التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة، لم يخفت شغف الإيرانيين بهذه المناسبة، بل اكتسبت أبعادا أعمق وأهمية أكبر كملاذٍ للعائلة من ضغوط الحياة، وكفرصة نادرة للتقارب العائلي، خصوصا في زمنٍ يُقصي فيه الإجهاد والفردية فرصة الحوار الصادق.

 

 

يلدا..تراث ايراني قديم ورسالة عابرة للزمان

 

 

يلدا مساحة مشتركة للحوار والانتماء

 

 

في عصر تمزّقه الفرقة بين الأجيال، تظل يلدا مناسبة جامعة تخلق مساحة مشتركة للحوار والانتماء، مستندة الى رموزٍ بسيطة لكنها عميقة: النور، الفاكهة، والكلمة.

 

 

لذا، فالحفاظ على روح ليلة يلدا، في جوهره، هو الحفاظ على فضاءٍ آمن للعاطفة، ومدرسة دائمة لنقل الحكمة، وورشة حيّة لتقوية الروابط الأسرية.

 

 

وهنا يمكن القول ان ليلة يلدا ليست مجرد ليلة سهر، بل رسالة إنسانية عابرة للزمان: مهما طال الظلام، فإن الفجر آتٍ لا محالة. وفي هذا العالم المليء بالتحديات، تبقى هذه الليلة تذكيرا بأن الوحدة، الأمل، والكلمة الطيبة هي شكل من أشكال المقاومة.

 

 

المصدر: الوفاق - ارنا