تجلٍّ من روعة الفنّ وإيمان الإيرانيين

صحن السيدة فاطمة الزهراء(س).. أحد أكبر مشاريع التوسعة في العتبات المقدسة

الوفاق: تمّ افتتاح صحن السيدة فاطمة الزهراء(س) المجاور لمرقد أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب(ع) في النجف الأشرف بحضور مسؤولين إيرانيين وعراقيين؛ وهو بناء فخم بطراز معماري إيراني - إسلامي يعكس روابط الروحانية والتاريخ وحضارة الشعب الإيرانية في العتبات المقدسة.

إنّ مشروع توسعة الصحن الطاهر لأمير المؤمنين(ع) الذي يحمل اسم السيدة فاطمة الزهراء(س) تمّ افتتاحه يوم 17 ديسمبر في مراسم أُقيمت بعد أذان المغرب والعشاء، بعد سنوات من جهود المهندسين والحرفيين الإيرانيين؛ وهو مشروع حافظ على أصالة العمارة النجفية وزاد من سعة الحرم العلوي عشرين ضعفاً.

 

الأهمية التاريخية والثقافية والاجتماعية لتوسعة الصحن

 

تمّ بناء صحن المرقد الطاهر للإمام علي(ع) في عهد الشاه عباس الصفوي بتصاميم بديعة وهندسية من الشيخ البهائي. هذا الصحن ذو أربع زوايا ويحتضن الضريح كالجوهرة، ويضم غرفاً وقاعات في طابقين. ولكل غرفة إيوان صغير، وكانت حتى أوائل القرن الرابع عشر الهجري مكان إقامة العلماء والمدرسين وطلبة الحوزة العلمية في النجف الأشرف. وفي عهد الشاه صفي، تم لأول مرة تزيين جدران الصحن بالبلاط.

 

الصحن الحالي للإمام علي(ع)، المعروف بالصحن العتيق، هو تذكار لعرض الإخلاص التاريخي للإيرانيين، بأبعاد تقريبية ۱۱۰ متر في ۱۱۰ متر، وهو من حيث المساحة أصغر حتى من العديد من البقاع المقدسة الموجودة في إيران.

 

ضرورة توسعة مرقد الإمام علي(ع)

 

خلال حكم النظام البعثي البائد في العراق، خاصةً في فترة قمع الانتفاضة الشعبانية، أضافت آثار إطلاق الرصاص من مرتزقة الدكتاتور إلى غبار الغربة الذي خيّم على الضريح المطهر، بحيث تعرضت العديد من المباني والأبواب والكتابات الجميلة المزخرفة بالبلاط وغيرها، والتي تُعدّ من النفائس الحضارية للفن الإيراني، لأضرار ودمار شديدين.

 

ورغم أن التحولات السياسية وتوتر العلاقات بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والعراق في زمن صدام البائد أدت إلى توقف قصير من المساعدات الإيرانية للعتبات، إلا أنه بعد سقوط الدكتاتورية وبحكمة الشهيد القائد الفريق قاسم سليماني كأول متطوع لإعادة إعمار المراقد، تمّ تمهيد الطريق مرةً أخرى لهذا النبع الصافي من الخدمة للمعصومين وزوار العتبات عبر إنشاء لجنة تطوير وإعادة إعمار العتبات.

 

في هذه الفترة الزمنية، شهدنا إقبالاً كبيراً من محبي أهل البيت(ع) على زيارة العتبات، حيث أعلنت الحكومة العراقية أن الإيرانيين هم أكثر الزوار الأجانب للعتبات.

 

ورغم أن توسعة الصحن، مثل باقي المباني، تتم وفق الحاجة، إلا أنه يجب الانتباه إلى أن عمارتها تنشأ بناءً على الرصيد الثقافي والحضاري للشعوب. وبعبارةٍ أخرى، تظهر قدرة وفن وعظمة الحضارة لدى الشعوب في عمارتها. ومشروع توسعة الصحن المطهر العلوي، الذي يحمل اسم صحن السيدة فاطمة الزهراء(س)، والذي تشرّف الإيرانيون بتصميمه وتنفيذه، ليس استثناءً من هذه القاعدة.

 

على الرغم من أن ضرورة بناء هذا الصرح، ومساحته الواسعة، ومرافقه الخدمية، ومساحاته المخصصة للزيارة وغيرها، قد تم تحديدها وفقاً لاحتياجات الزائرين وبنظرة مستقبلية تصل إلى ثلاثمائة سنة، إلا أن الزخارف والمعمار المستخدم فيه يتوافق مع الحضارة العريقة والثروات الغنية للثقافة والفن والمعرفة التقنية لمهندسي إيران.

 

وبناءً على ذلك، فقد تم استخدام أرقى درجات الفنون الإيرانية الإسلامية مثل نحت الحجر، وتزيين القاشاني، والمقرنصات، وتزيين المرايا، والنقش الجبسي، والبناء بالطوب، وصناعة الأخشاب في هذا المعمار.

 

 الخصائص المعمارية والفنية والهندسية للمشروع

 

شكل الصحن العتيق، حيث يتقاطع خطان شرقي-غربي مع خط شمالي-جنوبي عند جهة باب الساعة، في أجزاء مختلفة من صحن السيدة فاطمة الزهراء(س)، وتم الحفاظ بدقة على النسب الهندسية للصحن العتيق، حتى تبقى وحدة وتكامل العمارة الأصيلة لهذا الصحن المقدس خالدة.

 

وقد تم اختيار أرض بمساحة ٤٠٠ × ١٥٠ متر غرب الضريح، كان نظام صدام البائد قد بنى فيها ١٦ فندقاً، لتكون موقع الصحن الجديد، وقد قامت إدارة الضريح، بأداء حقوق المالكين الحاليين والسابقين لها.

 

في بداية عقد التسعينيات، تمّ هدم الفنادق وإجراء الحفريات، وتم تنفيذ 1284 عموداً خرسانياً بارتفاع ۲۱ متراً في ثلاثة جوانب من الأرض، وتجهيزها بتصريف دقيق لتكون جاهزة لبناء ضخم. ثم بدأت عملية صب الخرسانة الضخمة بحجم 248 ألفاً و834 متراً مكعباً.

 

في هذا الصحن، امتزج الجمال بالراحة. ماء الشرب العذب، وهو صداق السيدة فاطمة الزهراء(س)، يتدفق في خدمة الزوار عبر خزانات بسعة 80 ألف لتر، 20 جهاز تبريد كبير و66 وحدة تكييف تضخ الهواء النقي في عروق البناء.

 

الكهرباء تتدفق بلا انقطاع: 525 كيلومترًا من الكابلات والأسلاك، أي ما يقارب ستة أضعاف طريق الحب من النجف الأشرف إلى كربلاء المقدسة. 90 مصعدًا وسلالم كهربائية وممرات كهربائية، و920 دورة مياه و326 حمامًا، جميعها وُفرت لراحة وطهارة قلب وروح الزائر.

 

في هذه الوليمة السماوية، ترتوي الروح والجسد معًا: مكتبة تحتوي على كنز من 250 ألف كتاب، ومضيف يستقبل في كل وجبة عشرين ألف زائر.

 

لقد أدت عدة مؤشرات عمرانية ودينية إلى طرح مشروع توسعة الصحن المطهر العلوي كواحد من المشاريع الفريدة في العالم الإسلامي. أولى ميزات هذا المشروع رفع مستوى الخدمات الرفاهية للزوار. فقد تم التخطيط وتنفيذ مساحات مختلفة لإقامة المراسم والشعائر وحتى مبيت آلاف الزوار في المناسبات المختلفة مثل أيام الأربعين الحسيني، مما وفر أجواء معنوية مناسبة لمحبي أهل البيت(ع). إلى جانب هذه المساحات الروحية، تم بناء العديد من المباني الخدمية والمرافق العامة لخدمة الزوار، وقد استفاد الذين تشرفوا بزيارة النجف الأشرف في الأربعينات الماضية من هذه الخدمات.

 

الميزة الثانية لصحن السيدة فاطمة الزهراء(س) هي أبعاده. فقد ظل الصحن المطهر العلوي المعروف بالصحن العتيق على شكله الحالي دون أي توسعة لمدة تقارب 200 عام. ومع تنفيذ هذا المشروع، توسع صحن مولى المتقين ليصبح أكبر بحوالي عشرين ضعفًا.

 

أما التسمية الخاصة لمشروع توسعة الصحن المطهر العلوي باسم صحن السيدة فاطمة الزهراء(س) فهي الميزة الثالثة، والتي، وفق تعبير الشهيد الحاج قاسم سليماني، أدت إلى اتصال وإحياء اسم السيدة فاطمة الزهراء(س) المبارك بجوار الضريح المطهر العلوي، ليكون تذكارًا للسيدة المظلومة والمجهولة في المدينة.

 

نشر الثقافة والفن الإيراني – الإسلامي هو سمة أخرى لمشروع توسعة الصحن المطهر العلوي. فالصحن والقاعة الخاصة بالسيدة فاطمة الزهراء(س)، التي ستتحول في المستقبل القريب إلى مكان للعبادة وإقامة الملايين من الزوار من جميع أنحاء العالم، هو متحف خالد لفن العمارة الإيرانية والإسلامية، ويعكس قدرة المهندسين الإيرانيين في العتبات المقدسة.

 

هذا المشروع الكبير الذي تم تنفيذه بجهود المهندسين والعمال والأساتذة الإيرانيين، حصل على المرتبة الأولى كأفضل مشروع خرساني للعام من قبل جمعية الخرسانة الإيرانية في عام 2016م.

 

أكثر من ٦٠٠ شخص يقدمون الخدمات للزوار في الصحن

 

في هذا الصدد، قال عضو هيئة الأمناء ونائب رئيس مجلس إدارة لجنة إعمار وتطوير العتبات المقدسة: إن أكثر من ٦٠٠ موظف في أقسام الخدمات والفنية والهندسية يقدمون الخدمات للزوار في صحن السيدة الزهراء(س) من حيث الصيانة والنظافة.

 

وقال حسن بلارك: إن مشروع صحن السيدة الزهراء(س) بجوار مرقد الإمام علي(ع) هو واحد من أكبر وأعقد المشاريع المعمارية الإسلامية في العالم الإسلامي، وأضاف: تم تصميم هذا الصحن في قسمين، أحدهما للزيارة والآخر لغير الزيارة، واليوم وبعد سنوات من الجهود المستمرة أصبح جاهزًا بالكامل للاستفادة منه.

 

وأشار بلارك إلى أنه ربما لا تستطيع أي كاميرا أن تنقل عظمة هذا المشروع، وأضاف: في أقل من خمس سنوات، تم بناء صحن السيدة الزهراء(س) بجوار الضريح العلوي على مساحة تزيد عن ٢٣٠ ألف متر مربع وفقًا للعمارة الإسلامية وبمهارة الأساتذة والفنانين من إيران. من الأعمال الزخرفية بالمرايا والمقرنصات إلى استخدام الأحجار الخاصة والنادرة. وتابع: من التحديات الرئيسية في بداية العمل كان عمق الأرض الذي بلغ ١٠ أمتار وكان مليئًا بالمياه، وتجهيزها لبناء الصحن، بما في ذلك الصرف وتسوية الأرض، كان عملاً صعبًا للغاية ويستغرق وقتًا طويلاً؛ لكن بجهود وعزيمة الفرق الإيرانية، تم تجاوز هذه المراحل بنجاح وتقدم المشروع بحيث يمكننا اليوم أن نقول إننا لا نرى في هذا المشروع سوى معجزة.

 

وأشار نائب رئيس مجلس إدارة لجنة إعمار وتطوير العتبات المقدسة إلى تفاصيل الهندسة المعمارية والفن المستخدم في المشروع، قائلاً: في هذا المشروع تم تصنيع وتركيب أكثر من ألف ومئتي عمود دائري، وهو عمل لم يكن ممكناً بدون الأجهزة الخاصة التي دخلت إيران لأول مرة. جميع تجهيزات هذا الصحن أدت إلى تشكيل مزيج فريد من الفن والعمارة والإيمان، ونموذج نادر في العالم الإسلامي في هذا الصحن.

 

وأكد بلارك أن التنظيم والتخطيط جعلا الصحن مجهزًا بالكامل بجميع المعدات والإمكانات الفنية من الإضاءة وحتى السجاد اليدوي المناسب من صنع فناني كرمان، وجاهزًا للتشغيل وتم تقديمه إلى حرم الإمام علي(ع).

 

وأكد بلارك على آفاق المشاريع المستقبلية، قائلاً: الآن بعد أن تم الانتهاء من صحن السيدة الزهراء(س)، نأمل أن يستمر هذا المسار من التعاون والثقة لتطوير باقي الاماكن، مثل صحن السيدة زينب(س) بجوار مرقد سيد الشهداء(ع)، وكذلك تطوير مرقدي الكاظمين وسامراء.

 

 

المصدر: الوفاق