غرينلاند..الجغرافيا التي تصنع السياسة
غرينلاند، أكبر جزيرة في العالم، ليست مجرد أرض جليدية نائية، بل هي موقع استراتيجي بالغ الأهمية. مع ذوبان الجليد وفتح طرق بحرية جديدة عبر القطب الشمالي، تتحول الجزيرة إلى عقدة مركزية في التجارة العالمية والمنافسة الجيوسياسية. بالنسبة للولايات المتحدة، السيطرة عليها تعني امتلاك قاعدة متقدمة لمراقبة روسيا والصين، والتحكم في ممرات بحرية ستحدد مستقبل الاقتصاد العالمي.
لكن هذه الأهمية لا تمنح واشنطن حقاً قانونياً أو أخلاقياً في المطالبة بها، وهو ما يجعل تصريحات ترامب أقرب إلى إعلان نوايا استعمارية جديدة.
الهيمنة الأميركية..من مبدأ مونرو إلى غرينلاند
منذ القرن التاسع عشر، بنت الولايات المتحدة سياستها الخارجية على مبدأ مونرو، الذي اعتبر نصف الكرة الغربي مجال نفوذ حصري لها. لاحقاً، ومع الحرب العالمية الثانية، توسعت هذه الرؤية لتشمل العالم بأسره. التدخلات العسكرية في فيتنام والعراق وأفغانستان، ومحاولات السيطرة الاقتصادية والسياسية في أميركا اللاتينية، كلها تعكس عقلية ترى أن «الأمن القومي الأميركي» يُبرر أي فعل.
اليوم، حين يتحدث ترامب عن «الحاجة إلى غرينلاند»، فإنه يعيد إنتاج هذا المنطق ذاته، لكن بوقاحة أكبر: لا محاولة لتجميل الخطاب بشعارات الديمقراطية أو حقوق الإنسان، بل إعلان صريح بأن واشنطن تريد الجزيرة، ويجب أن تحصل عليها.
تجارب سابقة.. أطماع بلا حدود
ليست هذه المرة الأولى التي تحاول فيها الولايات المتحدة ضمّ أراضٍ ليست لها. فقد اشترت ألاسكا من روسيا عام 1867، وضمت هاواي بعد انقلاب مدعوم أميركياً أطاح بالملكة المحلية، كما حاولت مراراً شراء غرينلاند نفسها من الدنمارك، لكن محاولاتها فشلت.
هذه التجارب تكشف أن فكرة «شراء الأراضي» أو «ضمّها بالقوة الناعمة» ليست غريبة عن العقل السياسي الأميركي. الجديد اليوم هو أن هذه المحاولات تأتي في سياق عالمي شديد التعقيد، إذ لم تعد واشنطن اللاعب الوحيد، بل تواجه منافسين كباراً مثل الصين وروسيا، إضافةً إلى الاتحاد الأوروبي.
غطرسة ترامب.. السياسة كصفقة عقارية
ما يميز إدارة ترامب هو صراحتها الفجة وغطرستها غير المسبوقة. فبينما كانت الإدارات السابقة تحاول تغليف أطماعها بشعارات مثل «نشر الديمقراطية» أو «حماية حقوق الإنسان»، فإن ترامب يقولها مباشرة: «نحتاج إلى غرينلاند من أجل الأمن القومي». هذه الصراحة ليست شجاعة، بل وقاحة سياسية تكشف عن عقلية استعمارية ترى أن العالم كله قابل للضمّ إذا اقتضت مصالح واشنطن ذلك.
تعيين موفد خاص للجزيرة، وتكليف سياسي أميركي بالعمل على جعلها «جزءاً من الولايات المتحدة»، ليس مجرد خطوة دبلوماسية، بل هو إعلان نوايا واضح، يعكس غطرسة شخصية ترامب القادم من عالم العقارات، والذي يتعامل مع السياسة الدولية كما لو كانت سوقاً مفتوحة. بالنسبة له، الدول ليست كيانات ذات سيادة، بل عقارات يمكن شراؤها أو ضمّها. تصريحاته حول غرينلاند تكشف هذه العقلية بوضوح: «يجب أن نحصل عليها». هذه العبارة تختزل الغطرسة الأميركية في أبسط صورها، حيث تتحول الجغرافيا إلى سلعة، والسيادة إلى عائق يجب تجاوزه.
هذه الغطرسة ليست مجرد أسلوب فردي، بل هي انعكاس لنهج إدارة كاملة ترى أن القانون الدولي مجرد عائق يجب تجاوزه، وأن سيادة الدول الأخرى لا قيمة لها أمام «المصلحة الأميركية».
أهمية الجزيرة في الصراع الدولي
غرينلاند تحتوي على موارد طبيعية هائلة، من المعادن النادرة إلى النفط والغاز، إضافةً إلى موقعها المثالي لإقامة قواعد عسكرية ورادارات متقدمة. لذلك، فإنها ليست مجرد أرض جليدية، بل هي قطعة استراتيجية في لوحة الصراع الدولي.
من هنا، يصبح مفهوماً لماذا تصر واشنطن على اعتبارها«ضرورة للأمن القومي». لكن هذا الإصرار يطرح سؤالاً أكبر: هل يمكن لدولة أن تبرر ضمّ أرض أخرى فقط لأنها تراها مهمة لأمنها؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن القانون الدولي يفقد معناه، وتتحول العلاقات الدولية إلى صراع مفتوح بلا قواعد.
الموقف الدنماركي والأوروبي
ردّ الدنمارك كان حازماً: لا يمكن ضمّ دولة أخرى حتى مع التذرع بالأمن الدولي. هذا الموقف يعكس تمسك أوروبا بالقانون الدولي، لكنه أيضاً يعكس قلقاً عميقاً من عودة منطق القوة في العلاقات الدولية. الاتحاد الأوروبي يرى أن أي مساس بغرينلاند هو مساس بأمنه الجماعي، خصوصاً أن الجزيرة جزء من مملكة الدنمارك العضو في الاتحاد.
هذا الموقف يضع واشنطن في مواجهة مباشرة مع حلفائها الأوروبيين، ويكشف عن تصدعات في التحالف الغربي الذي يفترض أنه قائم على احترام السيادة والقانون.
روسيا والصين.. اللاعبان الحاضران في المشهد
حين تحدث ترامب عن «سفن روسية وصينية في كل مكان»، كان يعكس حقيقة أن القطب الشمالي أصبح ساحة تنافس دولي. روسيا تمتلك أكبر أسطول كاسحات جليد في العالم، وتستثمر بكثافة في البنية التحتية القطبية. أمّا الصين، فقد أعلنت نفسها «دولة قريبة من القطب الشمالي»، وتسعى إلى إدماج المنطقة في مشروع «الحزام والطريق».
بالنسبة لهاتين القوتين، غرينلاند ليست مجرد جزيرة، بل هي جزء من معركة أوسع على مستقبل النظام الدولي. لذلك، فإن أي محاولة أميركية لضمّها ستُواجَه برفض شديد، وربما بردود فعل عملية على الأرض.
القانون الدولي.. حدود القوة
القانون الدولي واضح: لا يمكن ضمّ دولة أخرى بالقوة أو بالإكراه. السيادة الوطنية ليست سلعة تباع وتشترى. لكن المشكلة أن هذا القانون يفقد فعاليته حين تواجهه قوة عظمى مثل الولايات المتحدة، التي تستطيع فرض إرادتها عبر الضغوط الاقتصادية والعسكرية.
هنا تكمن خطورة الموقف: إذا نجحت واشنطن في فرض رؤيتها على غرينلاند، فإن ذلك يفتح الباب أمام سابقة خطيرة، قد تشجع قوى أخرى على انتهاج الأسلوب ذاته. وهذا يعني انهيار النظام الدولي القائم على القانون، لصالح نظام جديد تحكمه شريعة الغاب.
القطب الشمالي.. ساحة تنافس القوى الكبرى
لم يعُد القطب الشمالي مجرد منطقة جليدية نائية، بل أصبح ساحة تنافس بين القوى الكبرى. روسيا تبني قواعد عسكرية جديدة وتستثمر في البنية التحتية، الصين تسعى إلى إدماج المنطقة في مشروع «الحزام والطريق»، والولايات المتحدة تحاول تعزيز وجودها عبر غرينلاند. هذه المنطقة تختصر المسافات بين آسيا وأوروبا وأميركا، ما يجعلها ممراً تجارياً بالغ الأهمية في المستقبل.
من هنا، يصبح مفهوماً لماذا تتحول غرينلاند إلى محور صراع دولي، فهي ليست مجرد جزيرة، بل بوابة إلى السيطرة على طرق التجارة العالمية، ومسرحاً لتوازنات عسكرية جديدة.
غرينلاند كرمز للمواجهة
غرينلاند لم تعد مجرد جزيرة جليدية نائية، بل تحولت إلى رمز لمواجهة أكبر بين منطقين متناقضين: منطق القوة الذي تمثله الولايات المتحدة في عهد ترامب، ومنطق القانون الدولي الذي تتمسك به الدنمارك وأوروبا. في هذه المواجهة، تتجسد كل التوترات التي يعيشها النظام العالمي اليوم: هل يُدار العالم وفق قواعد القانون والسيادة، أم وفق شريعة الغاب التي تفرضها القوى العظمى؟
ختاماً قضية غرينلاند تكشف بوضوح وقاحة الإدارة الأميركية وغطرسة ترامب، الذي يتعامل مع العالم كما لو كان سوقاً عقارياً مفتوحاً. إنها ليست مجرد خلاف دبلوماسي بين واشنطن وكوبنهاغن، بل مرآة تعكس جوهر السياسة الأميركية في عهد ترامب: تجاهل كامل للقانون الدولي، واعتبار السيادة الوطنية مجرد عائق أمام «المصلحة الأميركية».
في النهاية، يبقى السؤال الأعمق: هل يقبل العالم أن تتحول الجغرافيا إلى سلعة في سوق القوة الأميركية، أم أن غرينلاند ستكون نقطة انطلاق لمواجهة جماعية ضد الغطرسة الأميركية؟ الجواب سيحدد ليس فقط مصير الجزيرة، بل مصير النظام الدولي كله في العقود المقبلة.