منذ عقود طويلة، ظلّ الاتحاد الأوروبي يُقدَّم للعالم باعتباره التجربة الأكثر طموحًا في تاريخ التكامل السياسي والاقتصادي الحديث. مشروعٌ وُلد من رحم الحروب الأوروبية المدمّرة، ليكون ضمانةً للسلم والازدهار، وليُقدّم نموذجًا للتعاون العابر للحدود، إذ تتوحّد الدول في سوق مشتركة، ثم في منظومة سياسية واقتصادية متكاملة. غير أنّ هذا المشروع الذي بدا يومًا ما حلمًا أوروبيًا، يواجه اليوم تحديات وجودية عميقة، إلى درجة أن رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان شبّهه بلاعب أثقال ينهار تحت وزن نفسه، مؤكّدًا أنّ الاتحاد يعيش حالة تفكك متسارع، وأن أيامه الاقتصادية باتت معدودة.
تصريحات أوربان لم تأتِ من فراغ، بل من سياق طويل من الأزمات التي عصفت بالاتحاد، من أزمة الديون اليونانية إلى أزمة اللاجئين، مرورًا بخروج بريطانيا، وصولًا إلى الحرب في أوكرانيا وتداعياتها الاقتصادية. كل هذه الأحداث جعلت الاتحاد يبدو عاجزًا عن اتخاذ قرارات حاسمة، فيما تتزايد الهوة بين بروكسل والدول الأعضاء، وبين البيروقراطية الأوروبية والمواطن العادي الذي يشعر أن القرارات تُتخذ بعيدًا عنه. أوربان، بهذا المعنى، لم يكن سوى صوت صريح لمزاج شعبي متنامٍ في بعض الدول الأوروبية، حيث يتزايد الشك في جدوى المشروع الأوروبي، ويُطرح السؤال بجدية: هل يقترب الاتحاد الأوروبي فعلًا من التفكك؟
أوربان وصوت المعارضة الداخلية
منذ سنوات، يُقدّم أوربان نفسه باعتباره المعارض الداخلي للسياسات الأوروبية، صوتًا يرفض المركزية المفرطة لبروكسل، ويعتبر أن الاتحاد فقد القدرة على فرض قراراته. في خطابه الأخير، أوضح أنّ عملية التفكك جارية بالفعل، وأنها تبدأ بدولة واحدة لا تلتزم، ثم دولتين، ثم ثلاث، حتى يصبح البناء كله هشًّا. بالنسبة له، الاتحاد الأوروبي لم يعد قادرًا على إدارة أزماته، بل يكتفي بمحاولات بيروقراطية لبناء «إمبراطورية» لا وجود لها على الأرض. هذه الرؤية ليست مجرد موقف سياسي، بل تعبير عن أزمة ثقة عميقة داخل الاتحاد، إذ تتزايد الأصوات التي ترى أن المشروع لم يعد يُلبّي مصالح الدول الأعضاء، وأنه يفرض سياسات لا تتناسب مع واقعها الاقتصادي والاجتماعي.
الاقتصاد الأوروبي بين الركود والتحولات العالمية
الشق الاقتصادي في خطاب أوربان كان الأكثر إثارةً للجدل. فقد اعتبر أن الحقبة الاقتصادية الأوروبية على وشك الانتهاء، وأن استمرار السياسات الحالية سيؤدي إلى انهيار الاتحاد من تلقاء نفسه. هذا القول يجد صداه في المؤشرات الاقتصادية التي تكشف عن معدلات نمو ضعيفة مقارنة بآسيا، وعن أزمة طاقة خانقة بعد الحرب في أوكرانيا، وعن ارتفاع التضخم وتراجع القدرة الشرائية. أوروبا التي كانت يومًا مركز الاقتصاد العالمي، تبدو اليوم متأخرةً أمام الصين والهند ودول أوراسيا التي تشهد نموًا متسارعًا. أوربان يرى أن القرن المقبل سيكون قرنًا أوراسيًا، حيث ينتقل مركز الثقل الاقتصادي والسياسي إلى الشرق، فيما يتراجع الغرب عن موقعه التاريخي.
البُعد السياسي والحضاري
لكن أوربان لم يكتفِ بالاقتصاد، بل ذهب أبعد ليعلن أن عصر الهيمنة الغربية الذي استمر خمسة قرون قد انتهى. الغرب، لم يعد قادرًا على فرض قيمه أو نماذجه على العالم، ومحاولات «تغريب العالم» فشلت أمام صعود نماذج بديلة. هذا الخطاب يعكس رؤية أوراسية ترى أن المستقبل ليس في بروكسل أو واشنطن، بل في بكين وموسكو ونيودلهي. بالنسبة لأوربان، الاتحاد الأوروبي ليس فقط عاجزًا اقتصاديًا، بل أيضًا حضاريًا، إذ فقد القدرة على قيادة العالم، فيما يتقدّم الشرق ليكتب فصول القرن الجديد.
كذلك أن تفكك الاتحاد الأوروبي، إذا حدث، لن يكون حدثًا أوروبيًا فقط، بل سيؤثر على العالم كله. الولايات المتحدة ستفقد شريكًا استراتيجيًا، ما يعمّق أزمتها في مواجهة الشرق. النظام الدولي سيدخل مرحلة إعادة تشكيل، حيث تتراجع الكتل التقليدية وتظهر تحالفات جديدة، مثل بريكس ومنظمة شنغهاي، لتأخذ مكان الاتحاد الأوروبي في رسم ملامح القرن الأوراسي.
هل الانهيار حتمي؟
رغم تشاؤم أوربان، هناك من يرى أن الاتحاد الأوروبي قادر على التكيّف. فقد واجه أزمات سابقة ونجا منها، ولا تزال هناك مصالح اقتصادية ضخمة تربط الدول الأعضاء، وفكرة أوروبا الموحّدة ما زالت جذابة لشعوب كثيرة. لكنّ السؤال يبقى: هل هذه القدرة على التكيّف كافية أمام التحولات العالمية الكبرى؟ أم أنّ الاتحاد سيبقى يتراجع حتى ينهار؟ أوربان يعتقد أن الفترة المتاحة لإحداث تغييرات جذرية لا تتجاوز عامين إلى ثلاثة أعوام، ما يجعل المستقبل القريب حاسمًا لمصير الاتحاد.
ختاماً تصريحات أوربان ليست مجرد رأي سياسي، بل هي جرس إنذار يُذكّر أوروبا بأن مشروعها مهدّد من الداخل والخارج. الاتحاد الأوروبي يقف اليوم أمام مفترق طرق: إمّا أن يعيد بناء نفسه على أُسس أكثر واقعية، تراعي مصالح الدول الأعضاء وتواجه التحديات الاقتصادية العالمية، وإمّا أن يواصل التراجع حتى يصبح مجرد ذكرى في كتب التاريخ. في النهاية، قد يكون السؤال الأهم ليس ما إذا كان الاتحاد سينهار، بل كيف سيتعامل العالم مع مرحلة ما بعد الاتحاد الأوروبي، حيث يتقدّم الشرق ليكتب فصول القرن الأوراسي الجديد.