في نهاية عام 2025، أعلنت الحكومة اليابانية عن أكبر موازنة في تاريخها الحديث، تجاوزت قيمتها 122.3 تريليون ين، أي ما يعادل نحو 784 مليار دولار. هذه الخطوة لم تكن مجرد إجراء مالي اعتيادي، بل كانت إعلاناً عن دخول اليابان مرحلة جديدة من التوازن الصعب بين التحفيز الاقتصادي ومخاوف تضخم الديون، وبين الالتزامات الاجتماعية والضغوط الأمنية المتصاعدة. غير أن اللافت في هذه الموازنة لم يكن حجمها فقط، بل الزيادة غير المسبوقة في الإنفاق الدفاعي، الذي تجاوز 9 تريليونات ين، في إطار برنامج خماسي يهدف إلى مضاعفة الإنفاق العسكري ليصل إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي. هذا التحوّل لا يعكس تهديداً خارجياً بقدر ما يعكس نزعة داخلية نحو عسكرة السياسة، في وقت تحتاج فيه المنطقة إلى التهدئة لا إلى التصعيد.
الاقتصاد في مواجهة الأمن المصطنع
اليابان تواجه منذ سنوات تحديات اقتصادية معقّدة، أبرزها ارتفاع نسبة الدين العام إلى أكثر من ضعف حجم اقتصادها، وتراجع النمو، وشيخوخة السكان. ومع ذلك، اختارت حكومة رئيسة الوزراء ساناي تاكايتشي أن ترفع الإنفاق الدفاعي بشكلٍ غير مسبوق، في خطوة تعكس تحوّلاً استراتيجياً في عقيدة اليابان الأمنية. هذا القرار لم يأتِ نتيجة تهديد مباشر، بل نتيجة ضغوط سياسية داخلية وخارجية، خصوصاً من الولايات المتحدة، التي تدفع طوكيو إلى لعب دور عسكري أكبر في المنطقة. فالموازنة الجديدة ليست انعكاساً لواقع أمني، بل انعكاس لرؤية سياسية ترى أن اليابان يجب أن تتحول من دولة سلمية إلى دولة عسكرية، وهو ما يثير قلق دول الجوار وعلى رأسها الصين.
الصين ليست التهديد
الاستراتيجية الأمنية اليابانية التي أُقرت عام 2022 وصفت الصين بأنها «أكبر تحد ٍاستراتيجي» للبلاد. لكن هذا التوصيف يعكس رؤية منحازة، إذ إن الصين لم تبادر إلى تهديد اليابان، بل تواصل سياستها الدفاعية لحماية مصالحها في بحر الصين الشرقي والجنوبي. التوترات حول تايوان تُستخدم كذريعة لتبرير عسكرة اليابان، بينما الواقع أن بكين تطرح دوماً الحوار كخيار أول. تصريحات رئيسة الوزراء بأن اليابان قد تتدخل إذا أقدمت الصين على عمل عسكري ضد تايوان ليست سوى محاولة لإرضاء واشنطن، وليست تعبيراً عن تهديد حقيقي. بهذا المعنى، فإن الموازنة الجديدة لليابان لا تهدف إلى حماية البلاد، بل أداة سياسية تُستغل سياسياً لتصعيد المواجهة مع الصين.
تفاصيل الموازنة الدفاعية… رسائل عدائية
الموازنة الجديدة خصصت أكثر من 970 مليار ين لتعزيز القدرات الصاروخية بعيدة المدى، بما في ذلك شراء صواريخ «تايب-12» المطورة محلياً، والتي يصل مداها إلى نحو ألف كيلومتر. كما تضمنت تعزيز ترسانة الطائرات المسيّرة والقدرات الدفاعية الساحلية، في إطار برنامج «شيلد» الذي يهدف إلى نشر أنظمة غير مأهولة جوية وبحرية وبرية بحلول عام 2028. هذه الخطوات لا تعكس حاجة دفاعية، بل رغبة في امتلاك قدرات هجومية يمكن أن تستهدف الصين وكوريا الشمالية. فاليابان لم تعُد تكتفي بحماية أراضيها، بل تسعى إلى امتلاك القدرة على ضرب أهداف بعيدة، في رسالة عدائية واضحة إلى جيرانها، وهو ما يُهدد الاستقرار الإقليمي.
ضغوط أميركية أكثر من تهديدات صينية
يمكن قراءة أسباب هذا التحوّل في ثلاثة مستويات رئيسية. المستوى الأول هو الضغوط الأميركية، إذ طالبت واشنطن طوكيو مراراً بزيادة إنفاقها الدفاعي لتتحمل جزءاً أكبر من مسؤوليات الأمن الإقليمي، خصوصاً في ظل التوترات حول تايوان. الموازنة الجديدة تضع اليابان على مسار تحقيق هدف 2% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول مارس/ أذار 2027، أي قبل عامين من الموعد الأصلي، وهو ما يعكس استجابةً مباشرة للضغط الأميركي. المستوى الثاني هو التحديات الداخلية، حيث ترى اليابان أن الاعتماد على الأنظمة غير المأهولة هو الحل لتعويض النقص البشري الناتج عن شيخوخة السكان وتراجع القدرة على تجنيد قوات جديدة. المستوى الثالث هو الخطاب السياسي، إذ تستخدم الحكومة التهديد الصيني كذريعة لتبرير عسكرة غير مسبوقة، بينما الواقع أن الصين لم تبادر إلى أي عمل عدائي ضد اليابان.
ختاماً الموازنة القياسية التي أقرتها اليابان تُمثل لحظة مفصلية في تاريخها السياسي والاقتصادي، لكنها تكشف نزعة خطيرة نحو عسكرة السياسة الخارجية. فهي من جهة تعكس استجابة لضغوط أميركية أكثر مما تعكس تهديداً صينياً، ومن جهة أخرى تضع البلاد أمام تحديات اقتصادية هائلة بسبب ارتفاع الديون وتكاليف الاقتراض. وبين هذين الخيارين، تبدو اليابان وكأنها تدخل مرحلة جديدة من إعادة تعريف دورها في النظام الدولي، مرحلة قد تجعلها لاعباً أكثر عدائية في مواجهة الصين، لكنها في الوقت نفسه قد تفتح الباب أمام مخاطر لم تعرفها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.