حماية المسيحيين أم السيطرة على أفريقيا

واشنطن ترفع شعار الأقليات .. لتفتح أبواب النفط والغاز

الوفاق/ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، استخدمت الولايات المتحدة الأقليات والملفات الإنسانية كمدخل لتبرير تدخلاتها العسكرية. رفعت شعارات حماية المدنيين والدفاع عن الأقليات، بينما كانت الأهداف الحقيقية تتعلق بتثبيت النفوذ والسيطرة على الموارد. الضربة الجوية الأخيرة في شمال غرب نيجيريا، التي أعلنت عنها إدارة ترامب في كانون الأول/ديسمبر 2025، تأتي في السياق نفسه: خطاب إنساني يغطي مشروعاً جيوسياسياً واسعاً.

الخطاب الأميركي اختزل المشهد النيجيري المعقد إلى ثنائية بسيطة: مسيحيون مضطهدون مقابل جماعات إسلامية متطرفة. لكن الواقع أكثر تشابكاً، إذ تتداخل فيه عوامل الأرض والمياه والموارد والصراعات القبلية. ومع ذلك، اختارت واشنطن رفع شعار “حماية المسيحيين” لتبرير تدخل عسكري جديد في إفريقيا، في لحظة يتصاعد فيها التنافس الدولي على القارة السمراء.

 

 

نيجيريا بين الواقع المحلي والتأويل الأميركي

 

 

نيجيريا، أكبر دول إفريقيا سكاناً، تعيش منذ عقود توترات داخلية متعددة الأبعاد. صحيح أن هناك مواجهات بين جماعات مسلمة ومسيحية، لكنها غالباً ما ترتبط بنزاعات على الأراضي الزراعية أو مصادر المياه أو الخلافات القبلية. الجماعات المسلحة مثل «بوكو حرام» وداعش – ولاية غرب إفريقيا” تستهدف الجميع بلا تمييز، ما يجعل الحديث عن «ضطهاد المسيحيين حصراً» قراءة انتقائية.

 

 

لكن الإدارة الأميركية اختارت التركيز على المسيحيين وحدهم، لتصويرهم كضحايا يحتاجون إلى حماية خارجية. هذا التركيز يخدم هدفاً سياسياً واضحاً: تسويق التدخل العسكري كعمل أخلاقي، وتقديمه للرأي العام الأميركي والغربي باعتباره ضرورة إنسانية.

 

 

سياسة ترامب العسكرية بلا قيود ولا ضوابط

 

 

ترامب وعد بإنهاء الحروب الطويلة، لكنه أطلق سلسلة ضربات عسكرية متفرقة، من الكاريبي إلى إفريقيا، بلا نسق أو ضوابط. الضربة في نيجيريا ليست استثناءً، بل جزء من نهج متقلب يرى العالم كحقل تجارب مفتوح. كل مرة تُقدَّم حجة جديدة، لكن النتيجة واحدة: استخدام القوة بلا رؤية طويلة الأمد، واستعراض عسكري يخفي أهدافاً أعمق.

 

 

هذا النهج يعكس عقلية سياسية لا تعتمد على استراتيجية واضحة، بل على ردود فعل آنية ورغبة في إظهار القوة. وفي كل مرة، تكون الدول المستهدفة هي التي تدفع الثمن عبر مزيد من الفوضى والتوتر.

 

 

من فلسطين إلى نيجيريا… ازدواجية المعايير الأمريكية

 

 

المفارقة الصارخة أن واشنطن تتحدث عن حماية المسيحيين في نيجيريا، بينما تتجاهل الانتهاكات التي يتعرض لها المسيحيون الفلسطينيون تحت الاحتلال الصهيوني. في كل عيد ميلاد، يُمنع العديد منهم من دخول القدس وبيت لحم، وتُفرض عليهم قيود مشددة. هؤلاء يعيشون اضطهاداً حقيقياً، لكن واشنطن لا تحرك ساكناً، بل تواصل دعمها غير المشروط لكيان العدو.

 

 

هذا التناقض يكشف أن القيم الأخلاقية ليست سوى أداة دعائية، تُستخدم حين تخدم المصالح، وتُهمل حين تتعارض معها. المسيحيون في نيجيريا يصبحون قضية تستحق التدخل العسكري، بينما المسيحيون في فلسطين يُتركون لمصيرهم.

 

 

إفريقيا ساحة جديدة للصراع الدولي

 

 

القارة السمراء تشهد اليوم تنافساً محتدماً بين القوى الكبرى. الصين تمد نفوذها عبر مشاريع البنية التحتية، وروسيا عبر التعاون الأمني، بينما تحاول أوروبا الحفاظ على ما تبقى من نفوذها. الولايات المتحدة، التي تخشى فقدان موقعها، تسعى إلى تثبيت وجودها العسكري في مناطق استراتيجية مثل نيجيريا، الغنية بالنفط والغاز والمعادن.

 

 

الضربة الأميركية هي جزء من صراع دولي على النفوذ. التعاون الأمني مع نيجيريا، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، كلها مؤشرات على أن واشنطن تريد موطئ قدم دائم في المنطقة، في مواجهة الصين وروسيا.

 

 

التبريرات الأميركية.. شعارات فقدت معناها

 

 

منذ عقود، تكرر الولايات المتحدة الحجج نفسها لتبرير تدخلاتها: مكافحة الإرهاب، حماية حقوق الإنسان، نشر الديمقراطية. لكن هذه الشعارات فقدت مصداقيتها، بعدما بات واضحاً أن المصالح الجيوسياسية هي البوصلة الحقيقية للتحركات الأميركية.

 

 

في حالة نيجيريا، يصبح من الصعب إقناع العالم بأن الضربة جاءت بدافع أخلاقي بحت. فالمعاناة الإنسانية موجودة في مناطق كثيرة، لكن واشنطن تختار التدخل فقط حيث تتقاطع مصالحها. هذه الانتقائية تكشف أن القيم الأخلاقية ليست سوى أداة دعائية.

 

 

كما أن اختيار التركيز على المسيحيين في نيجيريا ليس بريئاً. فهو يخاطب القاعدة الإنجيلية في الولايات المتحدة، التي تشكل جزءاً مهماً من قاعدة ترامب الانتخابية. استخدام الدين هنا ليس لحماية أحد، بل لتعزيز صورة سياسية داخلية.

 

 

نيجيريا كحقل تجارب جديد

 

 

الضربة الأميركية في نيجيريا جزء من نمط أوسع: استخدام مناطق العالم كحقول تجارب للسياسات العسكرية الأميركية. مرة في الكاريبي، مرة في الشرق الأوسط، مرة في إفريقيا. كل مرة تُقدَّم حجة جديدة، لكن النتيجة واحدة: المزيد من الفوضى، والمزيد من الضحايا، والمزيد من الأزمات التي لا تجد حلولاً حقيقية.

 

 

نيجيريا اليوم تتحول إلى محطة جديدة في هذا المسار، حيث تُستخدم الأقليات كذريعة، وتُرفع شعارات حقوق الإنسان كغطاء، بينما الهدف الحقيقي هو تثبيت النفوذ والسيطرة على الموارد.

 

 

المنافسة الأميركية–الصينية في إفريقيا

 

 

لا يمكن فهم الضربة الأميركية في نيجيريا دون النظر إلى المنافسة المتصاعدة بين واشنطن وبكين في القارة الإفريقية. الصين، عبر مبادرة “الحزام والطريق”، استثمرت مليارات الدولارات في مشاريع البنية التحتية في إفريقيا، من السكك الحديدية إلى الموانئ إلى محطات الطاقة. هذه الاستثمارات عززت نفوذها الاقتصادي والسياسي، وجعلت العديد من الدول الإفريقية تعتمد عليها في التنمية.

 

 

الولايات المتحدة، التي ترى في هذا النفوذ تهديداً لمصالحها، تسعى إلى مواجهة الصين عبر أدوات مختلفة، منها التدخل العسكري. فحين تنفذ ضربة في نيجيريا، فهي لا تستهدف فقط الجماعات المسلحة، بل ترسل رسالة إلى بكين بأنها موجودة في المنطقة، وأنها لن تترك الساحة فارغة. التعاون الأمني مع نيجيريا، وبناء قواعد عسكرية محتملة، كلها خطوات تهدف إلى موازنة النفوذ الصيني، وضمان أن واشنطن تبقى لاعباً أساسياً في القارة.

 

 

ختاما  تكشف الضربة الأميركية في نيجيريا مرة أخرى أن واشنطن لا تتحرك بدافع أخلاقي، بل وفق مصالحها الجيوسياسية. الحديث عن حماية المسيحيين ليس سوى واجهة دعائية، بينما الواقع هو أن الولايات المتحدة تسعى إلى تثبيت وجودها العسكري في إفريقيا، ومواجهة النفوذ الصيني والروسي، والسيطرة على الموارد الطبيعية.

 

 

المصدر: الوفاق