حين يتحوّل الوعي إلى سلاح..

الشباب في خطاب الإمام الخامنئي؛ ومشروع إعادة رسم النظام العالمي

خاص الوفاق: يبدو الشباب اليوم كامتداد لأدوار السيدة زينب(س) والإمام السجاد(ع) في التاريخ: لا يحملون الرسالة بحدّ السيف، بل بقوة الكلمة والفكرة والوعي، أي أنهم جنود المعركة الإدراكية في الزمن الحديث

 

 

الوفاق/خاص/ د. أكرم شمص

 

المقدّمة:

 

في لحظة تتقاطع فيها ضغوط الجغرافيا السياسية مع التحولات العميقة في وعي الشعوب، برزت رسالة قائد الثورة الإسلامية آيةالله العظمى الإمام السيد علي خامنئي إلى المؤتمر السنوي لاتحاد الجمعيات الإسلامية للطلاب في أوروبا بوصفها نافذة سياسية وفكرية جديدة على موقع الشباب في المعركة الأوسع التي تخوضها الجمهورية الإسلامية إقليميًا ودوليًا.

 

 

لم تكن الرسالة تعبيرًا إنشائيًا عابرًا ولا مجرّد تحية للطلبة في المهجر، بل جاءت إعلانًا متجدّدًا لمعنى الصمود، ومحاولة لإعادة هندسة المشهد من زاوية من يمتلك الوعي يمتلك القدرة على صناعة المستقبل. ومع تقدّم سطورها، تتحوّل الرسالة من خطاب توجيهي إلى بيان حضاري – رسالي يعيد تعريف الصراع ويموضع الشباب في قلب صناعة التاريخ المقبل. فهي لا تكتفي بوصف الواقع أو تسجيل المواقف، بل تسعى إلى إعادة تشكيله وتعريفه من جديد، لتقول إن إيران ليست دولة تتفاوض حول النووي فحسب، بل مشروع يريد إعادة رسم قواعد النظام العالمي في العصر الحديث.

 

 

أولًا: بناء صورة الإنجاز الوطني.. السيادة تبدأ من الداخل

 

 

يفتتح الخطاب عباراته بتأكيد رمزي واضح: «اكتسب بلدكم هذا العام، ببركة الإيمان والاتّحاد والثقة بالنفس، مكانةً واعتبارًا جديدين في العالم»، حيث لا تُعرض أرقام ولا تُذكر إنجازات تفصيلية بقدر ما يجري بناء الإنجاز كحقيقة شعورية كلية تستند إلى ثلاثة أعمدة قيمية هي الإيمان والاتحاد والثقة بالنفس.

 

 

بهذه الصياغة يتحول مفهوم «القوة» من معادلة سياسية تقليدية تُقاس بالمؤشرات والقدرات المادية إلى نتيجة داخلية قبل أن تكون اعترافًا خارجيًا، فالدولة تصبح قوية حين تعرف ذاتها أولًا، وحين تنعكس هذه المعرفة في وعي الأجيال وانتمائها. إن هذا الأسلوب في التأسيس الرمزي للعزة الوطنية، عبر ترك «المكانة الجديدة» غير محددة بمستوى كمي أو توصيف تقني، يفتح المجال أمام تلقي الإنجاز بوصفه شعورًا وطنيًا عامًا أكثر منه رقمًا في تقارير رسمية، ويُستخدم لترسيخ فكرة أن التمسّك بالقيم الداخلية هو المصدر الحقيقي للسيادة والاعتراف الدولي، وأن الإيمان مصدر القوة، والاتحاد شرطها، والثقة بالنفس بوابتها نحو موقع أكثر رسوخًا في العالم.

 

 

ثانيًا: من حدث عسكري إلى سردية انتصار

 

 

يقول الإمام السيد علي الخامنئي: «لقد تلقّى الهجوم العنيف لجيش أمريكا، وربيبته المخزية في هذه المنطقة، هزيمة أمام مبادرة وشجاعة شباب إيران الإسلامية وتضحياتهم»، وهي عبارة تحمل حمولة خطابية عالية تُحوِّل المواجهة من واقعة عسكرية إلى «هزيمة» للعدو مكتملة المعنى، وتعيد صياغة الصراع بوصفه معادلة تقاطبية بين «نحن» المؤمنين الصامدين و«هم» المتجبّرين الفاسدين. ففي هذه الجملة يتحدد العدو بوضوح – الولايات المتحدة ومن يرتبط بها محليًا – بما يخلق تعبئة نفسية داخل الجمهور ويُشعِر المتلقي بأنه جزء من معركة الانتماء والكرامة، كما يُسند الفضل في هذا الانتصار إلى الشباب لا إلى السلطة السياسية، ما يعزز شرعية الشباب كشريك في صناعة التاريخ ويمنحهم دورًا بطوليًا. فيرتفع الجيل الجديد من موقع المُشاهِد إلى موقع الفاعل التاريخي، صاحب المبادرة، والقادر على قلب موازين القوة.

 

 

 

ثالثًا: الصمود رسالة وليست دفاعًا

 

 

الإمام السيد علي الخامنئي: «ثبت هذا العام أنّ الشعب الإيراني… قادرٌ على الصمود في مواجهة المستكبرين المفسدين والظالمين، وعلى إيصال نداء القيم الإسلامية إلى العالم بصوتٍ أبلغ من أيّ وقت مضى»، وهي جملة تُشيّد بناءً جدليًا متعمدًا يربط بين الصمود بوصفه فعلًا واقعيًا وبين الإيمان والعمل الصالح بوصفهما مصدره الروحي والأخلاقي.

 

 

وهنا لا يُقدَّم الصمود كاستجابة اضطرارية أو مجرد دفاع أمام ضغط خارجي، بل كتحوّل إلى وظيفة حضارية ورسالية تتجاوز حدود الداخل، حيث يصبح الشعب الإيراني قادرًا على حماية ذاته، وفي الوقت نفسه على تصدير قيمه وصياغة خطاب عالمي جديد. وبهذا تتحول المواجهة من نزاع سياسي على النفوذ إلى صراع على المعنى، وتُعاد قراءة الدور الإيراني ليس كدولة تدافع عن نفسها فحسب، بل كفاعل يسعى إلى أن يقدّم رؤية بديلة للعالم.

 

 

رابعًا: الألم بوصفه طاقة.. الشهادة وقود المشروع

 

 

الإمام السيد علي الخامنئي: «إنّ الحزن العميق… لم ولن يثنِ الشباب الإيرانيين أصحاب الهمّة»، وفيها يُعاد تعريف الفقد لا كعبء ينهك الجبهة الداخلية، بل كاختبارٍ لصدق الإرادة وشرعية الطريق. فالتعبير بـ«لم ولن» يخلق زمنًا مزدوجًا يؤكد أن الماضي لم يُضعف عزائم الشباب، وأن المستقبل أيضًا لن يكون قادرًا على ذلك، ما يمنح إحساسًا بالاستمرارية والثبات.

 

 

وفي سياقٍ موازٍ، يتحول الحديث عن الشهداء وعائلاتهم من توصيف لحزنٍ شخصي إلى بنية وعي جماعي، إذ إن وجود عائلات الشهداء «في طليعة المسار» يحمل رسالة ضمنية حاسمة: إن كان من أصابه الفقد ثابتًا صابرًا، فكيف لمن لم يُبتلَ أن يتراجع؟ هكذا تتبدّل دلالة الشهادة من خسارةٍ في عدد الأفراد إلى طاقة تأسيس للإرادة، ويغدو الدم بداية لا نهاية، وامتدادًا لا انقطاعًا.

 

 

خامسًا: تجاوز النووي.. إلى معركة القيم والعدالة

 

 

السيد الخامنئي: «المسألة ليست قضيّة النووي… بل مواجهة النظام الجائر وهيمنة الاستكبار»، وفي هذه الجملة يقلب الخطاب طاولة النقاش الدولي عبر رفض حصر إيران في زاوية الملف التقني للاتفاق النووي أو العقوبات أو التخصيب، ليعيد تعريف جوهر الصراع باعتباره معركة قيم وسيادة ووجود. فبدل أن تُقرأ المواجهة كخلاف سياسي محدود، يَعرضها النص كصراع بين العدل والظلم، وبين الإرادة والهيمنة، وبين مشروع يريد بناء نظام عادل – إسلامي – وطني – ودولي، وبين نظام عالمي قائم يقوم على الاستكبار والجور.

 

 

هذه الصيغة التي تجمع بين الجذور الإسلامية والهوية الوطنية والطموح الدولي تعبّر عن رؤية تريد أن تكون شاملة وغير منغلقة داخل حدود الدولة، بل ممتدة بتصور حضاري قادر على تقديم نموذج بديل للعالم. وتبلغ العبارة ذروة تعبويتها عندما يقال إن هذا الموقف «قضّ مضاجع المتجبّرين الفاسدين والمفسدين»، ما يمنح الرسالة بعدًا وجدانيًا ونفسيًا يُشعر المتلقي بأن الصمود يحمل أثرًا فعليًا في بنية القوة المقابلة، وأنه ليس فعلًا عبثيًا بل هزّ أساس خصومه، وهو ما يرسّخ صورة العدو بوصفه تجسيدًا للشر والظلم ويُعيد تثبيت ثنائية نحن/ هم بصيغة تتجاوز التحليل السياسي إلى بناء وعي جماعي مقاوم.

 

 

سادسًا: الشباب.. جنود المعركة في زمن الوعي

 

 

القائد الخامنئي: «وأنتم أيّها الطلاب الجامعيون، ولا سيّما في خارج البلاد، تقع على عاتقكم حصّة من هذه المسؤولية الكبرى»، وفي هذا النداء تحدّد الرسالة بدقّة فئته المستهدفة، رافعًا الطلاب من موقع الجمهور المتلقّي إلى موقع النخبة المكلّفة بالعمل، ولا سيما أولئك الموجودين خارج إيران، لكونهم يمتلكون القدرة على التأثير في فضاءات إنتاج المعرفة والإعلام والمراكز الفكرية والرأي العام الدولي وشبكات العلاقات العابرة للحدود.

 

 

ومن هنا تنتقل الرسالة إلى مستوى التكليف التنفيذي عبر عبارة «استودعوا قلوبكم لله، واكتشفوا قدراتكم، ووجّهوا المنتديات نحو هذا المسار»، وهي جملة ذات بنية منهجية بثلاث خطوات متتالية: إصلاح البوصلة الروحية لضمان نقاء النية، إدراك الذات بوصفها فاعلًا قادرًا لا مجرد متابع، ثم تحويل هذا الوعي إلى فعل جماعي منظم داخل الأطر الطلابية. بهذا تبلغ الرسالة ذروتها، إذ لا يكتفي بدعوة إلى الوعي، بل يدعو إلى تحويل الانتماء إلى مشروع، والصوت إلى قوة، والفكرة إلى حركة تقود مسار المعركة في ميدان الوعي الدولي.

 

 

الختام بالدعاء.. شرعنة الفعل وإضفاء اليقين

 

 

تأتي الخاتمة بالدعاء: «الله معكم، والنصر المؤزّر بانتظاركم، إن شاء الله»، لا بوصفها عبارة جمالية أو تقليدًا إنشائيًا متكررًا، بل كصيغة تمنح شرعية للفعل وتثبّت اليقين في قلب المتلقي؛ فهي تمنح الطمأنينة عبر استحضار معية الله، وتَعِد بالنتيجة مسبقًا من خلال الإشارة إلى «النصر المؤزّر»، وتربط النجاح بالإرادة الإلهية عبر «إن شاء الله»، لتصوغ بذلك حالة نفسية عنوانها: الطريق ربما يكون صعبًا؛ لكن النتيجة مضمونة ما دام الصمود قائمًا.

 

 

وفي عمق هذه الخاتمة يستدعي الخطاب منطق كربلاء الذي يضع انتصار الدم على السيف تعبيرًا عن انتصار المعنى على المادة؛ فالحق قد يُهزم ميدانيًا لكنه ينتصر حين يتحول إلى وعيٍ ممتد عبر الزمن.

 

 

ومن هذا المنطلق، يبدو الشباب اليوم كامتداد لأدوار السيدة زينب(س) والإمام السجاد(ع) في التاريخ: لا يحملون الرسالة بحدّ السيف، بل بقوة الكلمة والفكرة والوعي، أي أنهم جنود المعركة الإدراكية في الزمن الحديث.

 

 

وهكذا يصبح النصر، وفق ما تعلّمنا هذه الخاتمة، ليس في إسقاط قاعدة عسكرية ولا في توقيع اتفاق سياسي، بل في بناء جيل يقول «لا» حين يُراد له أن يقول «نعم»، جيل تبقى فيه الهوية حيّة، والإرادة ثابتة، والصوت مستمرًا، والمعنى متجذرًا.

 

 

وبذلك، فإنّ الهزيمة لا تقع حين تُهزم الجيوش، بل حين يصمت الوعي؛ والمعركة، وفق هذا الفهم، ليست معركة إيران وحدها بل معركة الإنسانية أمام كل أشكال الظلم.

 

 

المصدر: الوفاق / خاص